ايفا علوية ناصر الدين
عندما شبكت عناكب العدو خيوط عدوانها باتجاه رب ثلاثين كانت صورة البلدة التي يشع جبينها بتاريخ يفيض بوجوه الصمود والمقاومة حاضرة في أذهانهم بقوة، لا سيما عند مدخلها الذي تشهد تقاسيمه على العملية الاستشهادية البطولية التي نفذها الشهيد علي أشمر في العام 1996. فرهبة المكان أعادت إلى الذاكرة مشاهد الموت البائس والأشلاء الممزقة، وأشعلت في النفوس فتيل الرعب من المصير المشؤوم. وجد جنود العدو أنفسهم مستسلمين لشعور قاهر بالخوف من أن يعيد التاريخ نفسه، فتضيف حرب تموز المزيد من الصور والمشاهد إلى فصول الحكاية. وهكذا كان...
رب ثلاثين
• القضاء: مرجعيون.
• الارتفاع عن سطح البحر: 750م.
• البعد عن العاصمة: 97كلم.
• عدد السكان: حوالي 5000 نسمة.
• حدود البلدة
من الشمال: بلدة الطيبة.
من الشرق: بلدة العديسة.
من الغرب: بلدتا القنطرة وبني حيّان.
من الجنوب: بلدة مركبا.
قبل أن تسن وحشية العدو مخالبها للانقضاض الغادر على الأحياء والمنازل، قضى العديد من أهالي بلدة رب ثلاثين الأيام الثلاثة عشر الأولى من الحرب في وحدة حال من الصمود والثبات. فبالرغم من ضجيج القصف المتوالي على أطراف البلدة والذي كانت أصداؤه تتهافت إلى مسامعهم على مدى ساعات الليل والنهار، كان الأهالي يستأنسون بالتكاتف لتأمين متطلبات حالة الطوارئ التي فرضتها أجواء الحرب. واستمتع الجميع بروحية الجهاد التي أثارت في نفوسهم الشعور بأن لكل منهم رجالاً ونساءً دوراً يؤديه لتعزيز ومواكبة جهوزية المجاهدين للخطر المتربص بجنبات البلدة التي احتضنت تربتها الاستشهادي علي أشمر، والشهيد نصري حمود.
* وللمرأة جهاد
الحاجة نايفة يحيى (أم محمد/50 عاماً) من النساء اللواتي تزخر حياتهن بالمواقف التي تنطق بعظمة وأهمية دور المرأة في ميادين الجهاد. لقد كانت التجربة التي عاشتها خير دليل وبرهان على فشل الضغوط مهما بلغت حدة قساوتها في القضاء على الأمور الراسخة في القلب والوجدان. فكيف إذا جاءت هذه الضغوط من عدو محتل غاصب يساوم على نزع روح الممانعة والتحدي، وشل الأيادي التي ترفع راية الدفاع عن الأرض والقضية؟ كانت أم محمد تسكن أثناء فترة الاحتلال الإسرائيلي للجنوب مع عائلتها في منزلهم الذي تمتد جذوره عميقاً في قلب تربة رب ثلاثين، وفجأة وجدت نفسها مكبّلة بقيود الأسر التي قادتها إلى معتقل الخيام، هي وكل من زوجها (حسن بركات) وولديها الشابين، مبعدة قسراً عن أطفالها الثلاثة (7 و5 و3 سنوات) الباقين لوحدهم مع جدتهم المسنّة من دون معين. سنة ونصف أمضتها أم محمد في المعتقل بشرف التعامل مع المقاومة وتسهيل عملية الشهيد علي أشمر الاستشهادية، ذاقت خلالها مرارة البعد عن فلذات أكبادها الصغار، وحسرة القرب من ولديها اللذين شاركاها قساوة وألم الاعتقال، وذلك بعد خروج زوجها الذي بقي ستة أشهر تعرّض فيها لأقسى أنواع التعذيب والقهر. في أيار من العام 2000، وبحلول أيام الانتصار والتحرير، انتهت رحلة المعاناة التي ألقت بظلالها على العائلة لسنوات مع خروج ولدها الأخير من المعتقل. وتمّت الفرحة بلمّ الشمل فرمت أم محمد آلام الماضي خلف ظهرها، واستبشرت خيراً برؤية مشاهد العزة التي ترافقت مع شعور قوي في أعماقها بالفخر بأن الله منَّ عليها بالمساهمة ولو بجزء يسير في مسيرة التضحية والمقاومة التي أينعت ثمارها انتصاراً، وشعور آخر يوازيه بالعزم على المزيد من العطاء حتى الرمق الأخير. جاءت حرب تموز فشحذت أم محمد الهمة مع مجموعة من النساء لخدمة الصامدين والمجاهدين المرابطين على ثغور البلدة تحضراً لأي اعتداء يطالها. تتلألأ على ملامح أم محمد ابتسامة الرضا وهي تتحدث عن تلك الأجواء: "كنت أحلب البقرة، وأصنع من حليبها اللبن واللبنة، وأوزعها على الجيران. كنا أنا وجاراتي نعدّ الطعام لشباب المقاومة، وحين كنا نسمع دوي القصف كنا نتوجه بالدعاء إلى الله متوسلين بأهل البيت عليهم السلام فتطيب نفوسنا بالسكينة والأمان".
وهذا الأمر ليس بغريب على أم محمد، فقد عايشته بقوة أثناء وجودها في المعتقل. تروي حادثة حصلت معها تحملها ككنز ثمين مخبّأ في ثنايا الذاكرة: "أثناء إحدى جلسات التحقيق معي في المعتقل، تعرضت لضرب قاسٍ ومبرح أفقدني الوعي. وعندما استيقظت وجدت نفسي مرمية على الأرض في زنزانتي الموحشة، فضاقت بي الدنيا وعزّت عليّ نفسي للمظلومية التي حلّت بي، فبدأت بالبكاء منادية السيدة زينب عليها السلام بتضرع وتوسل، وإذ بي أحس بامرأة تلبس عباءة سوداء تتقدم مني، وتمسك بيدي وترفعني عن الأرض، وتضعني على السرير. وفجأة التفتّ حولي فلم أجدها. قمت وطرقت باب الزنزانة بشدة وإصرار، ففتحت لي الشرطية، وعندما سألتها عن تلك المرأة استغربت وأكدت عدم دخول أحد الغرفة، فأدركت الأمر وفهمته بعدما أحسست بروحانية عالية تغمر كل كياني". عندما حوّل القصف الهمجي البلدة إلى بؤرة من النار والدخان، اضطرت أم محمد للمغادرة. وقد رجعت بعد انتهاء الحرب لتزف أخيها محمداً الذي شارك في مواجهات مشروع الطيبة شهيداً إلى رضوان الله.
* قصة النساء الخمسة
في اليوم الرابع عشر على حرب تموز كان العدو قد اتخذ قراره بالتوغل في البلدة والسيطرة عليها، نظراً لأهمية موقعها على اعتبار أنها نقطة تقدّم للانطلاق إلى محور وادي الحجير، إضافة إلى وقوعها في وسط تلتين عاليتين تؤمنان لمن يسيطر عليهما الكشف على جميع البلدات المحيطة وهما جبل وردة وتلة العقبة والتي يرتبط اسمها بحقبة جهادية مهمة إبان فترة الاحتلال، فقد شهدت مواجهات نوعية في العام 1978، إضافة إلى الرمزية التي تتمتع بها كونها موطئاً جهادياً لقادة كبار أمثال الدكتور الشهيد مصطفى شمران والسيد أحمد الخميني اللذين شاركا فيها مع المجاهدين في قتال العدو في بداية انطلاق حركة المقاومة. وهكذا فقد عمد العدو إلى قصف وحشي مركّز على أحياء ومنازل البلدة، مما استدعى خروج الأهالي لانعدام إمكانية البقاء. وفي اليوم الخامس عشر خلت البلدة من الأهالي باستثناء خمس نساء رفضن الخروج وفضلن البقاء، فكانت فاطمة علي فقيه (63 سنة) أول امرأة تستشهد جراء القصف الذي أصاب منزلها صباحاً فأصيبت وعندما وصل الصليب الأحمر إليها في المساء كانت قد فارقت الحياة. أما النساء الأخريات وهن أم سعيد بركات (80 سنة) وابنتها (60 سنة) وابنة ابنتها (35 سنة) وجارتهم نايفة بركات (75 سنة)، واللواتي اجتمعن معاً وبقين حتى اليوم العشرين، فقد امتدت إليهن يد الارهاب الصهيونية في غارة وحشية، دفنتهن تحت أنقاض المنزل، ليضحين شاهدات على مدى جبن العدو الذي يتفرد بالناس العزل حين يعجز عن منازلة أبطال المقاومة وفوارسها.
* مواجهات رب ثلاثين
حين عمد العدو إلى تصعيد وتيرة القصف بهدف التدمير والإبادة، كان يفترض أن هذا الأسلوب سيؤمِّن لجنوده طريقاً سالكة آمنة خالية من أي مواجهات. ولم يكن يتوقع أن رجال الله سيكونون له بالمرصاد عند كل زاوية ومفترق، وأن دخوله إلى بلدة رب ثلاثين سيُغرقه في مستنقعاتها، وسيؤخر تقدمه إلى وادي الحجير عشرة أيام يُحسب لها ألف حساب في الموازين العسكرية. البداية كانت مع القصف المركّز الذي انتشرت قذائفه في أرجاء البلدة، وأصابت المنازل وخزّان المياه الرئيسي، والمسجد، والحسينية، والمدرسة، تلاه دخول أرتال الدبابات التي وصل عددها إلى 80 دبابة. قام بعدها العدو بإنزال فرق المشاة من لواء غولاني والذين وصل عددهم إلى 400 جندي تغلغلوا في الشوارع والبيوت بمواكبة طائرات الاستطلاع والأباتشي. الهدف الذي ظنّ جنود العدو أنهم حققوه بدخولهم إلى البلدة انقلب عليهم. فبعد حصول اشتباكات وكمائن متفرقة كانت الطائرات الحربية تتدخل على إثرها بهدف الحسم السريع اطمئن العدو وارتاح بال جنوده لسير المعركة إلى أن وقعوا في الكمين الذي أعدّه لهم أبطال المقاومة، والذي يروي تفاصيله أحد المجاهدين: "حين حلَّت الفرصة المناسبة قام المجاهدون بفتح نيران أسلحتهم على مجموعة صهيونية، فدار اشتباك معها على بعد 10 أمتار. واستمرت هذه المواجهة لمدة 36 ساعة على التوالي كانت تشتد فيها حدة الاشتباك وتضعف، ويعلو فيها صراخ الجنود. وقد عمد العدو خلالها إلى تعزيز مجموعاته ونقل الجرحى والمصابين وإنزال جنود مكانهم. ولما استنفد العدو قدرته على الحسم قام بقصف المنزل الذي يوجد فيه المجاهدون بقذائف 155 ومن خمس جهات، وعمل على استقدام دبابة وملالة لتطويق المنزل ومحاصرة المجاهدين تمهيداً لاقتحامه. ظنَّ جنود العدو أن أرواح المجاهدين قد علقت في شباكهم، وسال لعابهم للتشفي بالإجهاز على مجموعة المجاهدين المحاصرين لكن أحلامهم ذهبت سدى بعدما حلّت لطائف العناية الإلهية، فغطى الضباب الكثيف المفاجئ أرجاء المكان وتمكن عندها المجاهدون من الانسحاب بخفة تحت ظلال العناية الإلهية التي أنقذتهم". وعن أثر هذه المواجهة التي أربكت العدو وكبدته العديد من القتلى والجرحى في جنوده، وقدّمت فيها المقاومة الشهيد المجاهد يامن سويدان، يقول: "هذه المواجهة التي حصلت في دائرة صغيرة أخّرت وصول العدو إلى الحجير ثلاثة أيام. والآليات التي دُمرت في تلة العقبة أخّرت تقدمه سبعة أيام، مما استدعى من قيادة العدو آنذاك إقالة قائد القوة البرية للمدرعات وتعيين بديل له".
* جنود العدو يقصفون أنفسهم
حادثة أخرى نسمعها من المجاهدين تنطق بروعة العناية الإلهية، وتدلّل على حجم الإرباك الذي وقع فيه جنود العدو خلال المعارك: "جنود العدو كانوا يوجدون في المنازل بأعداد تبلغ 14 جندياً مع ضابط في كل منزل. أثناء المواجهات أصيب أحد هذه المنازل بضربة كبيرة أوقعت عدداً كبيراً من القتلى والجرحى في صفوف العدو. فقد كشف المجاهدون على المنزل بعد انتهاء الحرب، فوجدوا آثار الإصابات وبقع الدماء التي ملأت الأرض والجدران. لم يكن المجاهدون هم الذين رموا. فقد تبين أن طائرة الأباتشي هي التي أنزلت صواريخها نتيجة لخطأ في الأهداف. لقد رمت جنودها القابعين في المنزل والذين كان آخر ما توقعوه هو أن يُقتلوا على أيدي رفاقهم المرابطين في الأجواء".
هذا ولم يكتف جنود العدو بالانطباعات السيئة التي رسموها لأنفسهم والتي تجلت في وحشيتهم في ارتكاب المجازر وبهيبتهم المتكسرة عند أقدام المجاهدين، فقد عملوا على إضافة صورة الهمجية إلى سجلاتهم. لقد استباحوا حرمة البيوت الآمنة فاتخذوا منها جحوراً للاختباء. وعندما خرجوا منها تركوا فيها آثارهم البغيضة. فقد كسروا أثاث المنازل وانتزعوا قطعاً خشبية من غرف النوم ليسدوا بها النوافذ، ونفذوا أعمالاً تخريبية مستهجنة، حطموا لوحات الحائط وكتبوا عبارات نابية مكانها، أطلقوا رشقات سلاحهم على شاشات التلفاز، ووصل بهم الأمر إلى قضاء حاجاتهم في الأواني والطناجر.
* شهيد الوعد الصادق
ـ الشهيد يامن يوسف سويدان (من بلدة عدشيت) بعد انتهاء الحرب بقي العدو في رب ثلاثين 10 أيام لتأمين انسحاب قواته وآلياته. وقد عدّ المجاهدون حوالي 120 آلية مدمرة سحبها العدو من منطقة وادي الحجير والطيبة. رب ثلاثين البلدة التي صُنفت منكوبة جراء القصف الذي أصاب جميع منازلها تبدو اليوم في أحلى حلتها وهي تزهو بصورة الانتصار الذي يزين مدخلها بوجوه الشهداء الخالدين، وبذكرى جنود المحتل المهزومين يخرجون منها وهم يجرون أذيال الخيبة والهزيمة.