نسرين إدريس
اسم الأم: خديجة قانصوه
محل وتاريخ الولادة: الدوير 2/8/1966
الوضع العائلي: متأهل وله ثلاثة أولاد
رقم السجل: 112
وكيف لا يكون الوصول قريباً، و"ساجد" في محراب الجهاد يصلّي صلاة العارفين! وكيف يكون بعيداً مَن كانت آلام جراحه تسبيحاتِ الصابرين.. وهو كان كمن رأى الجنّة فلم تزده يقيناً، وهو الذي لامس الشهادة غير مرة، وفرّت من بين أصابعه، فهانت نفسه أكثر من ذي قبل.. وساجد الذي نسج النصر في أيار بأشفار عينيه، فلم يهدأ، وظلّت البندقية الملقمّة بين يديه على موعد جديد، كان الأخير.. مع الحاج ساجد، تضيع البدايات، فعند كل حرف وقفة طويلة، ومع كل فاصلة يتكشف لنا مفصل مهم من تاريخ كان جسده جغرافيته..
بلى، لقد حمل جسده أوشام الكثير من الجراحات التي لم يلتئم بعضها، وظلّ الوجع رابضاً في أعماقها حتى نَسي كيف تكون الحياة من دون ألم.. ذلك الألم الذي لم يفتَّ من صلابة عزيمته وشوقه لمقارعة العدو الإسرائيلي، الذي حملت أوراقه الكثير الكثير من تواقيع الحاج ساجد في أكثر العمليات إيلاماً له إبان احتلاله لقسم من جنوب لبنان. لقد ارتاحت المواقع الصعبة تحت أقدامه، ونبتت راياته في متاريسها، ووصلت أنامله إلى العمقِ. فهو كان نافد الصبر في انتظار العدو، فتراه يستكشفُ المواقع، ويستشرف الوقائع، ليرسمَ الغدَ بخطِّ قلمه المُتقن المتيقن من أروع الانتصارات.. إنّه الشجاعة والمبادرة، والذكاء المتوقد الملتحم مع أزيز الرصاص، فلم يستطع للحظة واحدة أن يختزل نفسه من السلاح، فهما كروحٍ واحدةٍ في جسد وقطعة حديد، يتنفسان العشق الخالص لرائحة الدّم الراعف على الترابِ؛ والجنّة أزلفت للمتقين..
لقد تفاجأ الناسُ، خصوصاً أهل قرية الدوير، عندما زفّت المقاومة قائدها الحاج ساجد، فهم لا يعرفون عنه سوى أنه تاجر للسيارات. وكيف لذلك الرجل الهادئ الرصين، أن يكون هو نفسه الذي خاض أغلب العمليات العسكرية في تاريخ المقاومة، وأدار معارك بنت جبيل في حرب تموز؟! كانوا يرونه في حديقة منزله يزرع البقول والبذور، يشذّب أغصان الشجر، ويقطفُ من جنى الدوالي، فعكست هذه الصورة الرّقة العالية لقلبه المفعم بالحبّ والاحترام لكل من عرفه.. وعلى الرغم من قلّة وجوده بين الناس، فقد ربطته بهم علاقة اجتماعية قوية، وكان داعية لهم للإيمان والالتزام بغير لسانه. فدماثة أخلاقه ونبله وشهامته، تركت الأثر البالغ في نفوسهم، فصار مقصدهم في النوائب، وصاحبهم في أفراحهم، يتحينون الفرصة ليتشاركوا معه في حديث أو جلسة، لينهلوا من معينه الطيّب ما هو لذة للسالكين..
لقد عكس بحياته المدنية الإنسان المتميز، فهو ولد بار بوالديه، ربّاه والده على حبّ الوطن والتضحية لأجله، فحفظ الدرس جيداً، وطبقه في كل سكنة من سكنات حياته، فلم يغب عن خاطره لحظة ذلك اليوم الذي جمعهم فيه الأب الجندي في الجيش اللبناني، وعلّمهم كيف يُستعمل سلاحه دفاعاً عن المظلوم فقط، فامتشقَ ساجد سيف حقه من غمد القهر الذي لوّن الأيام الطويلة، وكتبَ أن الأرض لله يورثها لمن يشاء من عباده المخلصين.. لكمْ كان الطلب عزيزاً عليه، ففي أوج تعبه، يخدم نفسه بنفسه، ويستحي أن يطلب شربة ماء ولو من أولاده الصغار، الذين ربّاهم على المبادئ المحمدية الحسينية. وكما سعى لتأمين حياة كريمة لهم، وأمّن لهم العلم، زرع في حنايا نفوسهم حبّ الجهاد، فهو من حين لآخر كان يُلبس ابنه بذلته العسكرية التي شارك فيها بأغلب عمليات المقاومة الإسلامية، وقد أوصى بها إليه بعد استشهاده.. تتلمذ الحاج ساجد على الشيخ راغب حرب قدس سره وتعلّم من الصلاة خلفه السلوك في طريق الجهاد. فقد كان يترك المدرسة ليُصلي صلاة الجمعة خلفه، ويغذي عقله بالكلمات التي زرعها في نفسه، وفاح أريجها عشقاً للجهاد. كانت تلك المرحلة مفصلاً مهماً في حياته، فبعد أن كان طالباً في السنة الجامعية الأولى، ترك كرّاسات العلوم السياسية، ليلتحق بالمجاهدين في العام 1985، ومنذ ذلك التاريخ تآخى جسده مع التلال والجبال، وكلما شُفِيَ من إصابة، حمل أخرى، وكان الألم ينحصر في عدد الأيام التي سيغيب فيها عن الجبهة.. في 16 شباط 1992، وبينما كان موكب السيد عباس الموسوي يتوجه من جبشيت إلى بيروت، لاحظ الحاج ساجد أن الطائرات الإسرائيلية قد انخفضت، فاحتمل استهداف الموكب. لم يتمالك نفسه وهو يصعد في سيارته وينطلق بسرعة جنونية إلى أقرب نقطة للجيش اللبناني، حيث صعد إلى ملالة بمساعدة جندي وراح يطلق النار على الطائرات التي سرعان ما انحرفت وغادرت السماء بعد استهداف موكب السيد..
كانت تلك الفاجعة الثالثة بعد رحيل الإمام الخميني قدس سره واستشهاد الشيخ راغب قدس سره. وإذا كان الجسدُ يتآخى والجراح، فكيف بالقلب الطاهر يتحملُ عذابات فقد الأحبّة؟! وكان الردُّ دوماً مقاومة.. وضع الحاج ساجد أدق الخطط العسكرية وأخطرها، وفي أكثر المواقع صعوبة، حتى قيل إن أنامل ساجد تُجيد اكتشاف الوعر، ورسم الجبال والمغاور عن بعد. ولم يكن يقبلُ المراوحة في إعداد وتنفيذ العمليات.. وإذا كان الحاج ساجد قد وصل إلى سدّة القيادة في المقاومة الإسلامية، فإن ذلك لم يمنعه أبداً من المشاركة في العمليات، فهو دائماً في مقدمة المجاهدين، على الرغم من معرفة الجميع بأن الإصابات التي يحملها تمنعه من أن يكون في بعض الأماكن نظراً لعدم قدرته على السير طويلاً، ولكنه لم يقبل أبداً بالرضوخ لوضعه الصحي..
وكانت حرب تموز.. والعدو الإسرائيلي لم ينسَ جولاته الخاسرة مع " ساجد الدوير"، فهو الذي استهدف ملالاتهم فأحرقها، وصعد على عددٍ منها حاملاً راية حزب الله.. لم يَتعبْ، ولم يقمع الوجعُ الثورة المتأججة بداخله.. وسرعان ما شعر العدو بوجود الحاج ساجد في بنت جبيل، وتيقن من ذلك بعد الضربات الموجعة التي تلقّاها، فصار الضابطُ الإسرائيلي يناديه عبر مكبّر الصوت والأجهزة اللاسلكية: "سنقتلك يا ساجد الدوير.. سنقتلك" وفي بنت جبيل ساحة النزال الأخيرة.. كان يكتب على قصاصات الورق الصغيرة ما يُبَث إلى المجاهدين فيرفع من معنوياتهم. وقد لاحق فلول الصهاينة من تلة إلى تلة ومن بيت إلى بيت. التحمَ معهم، كما كان دائماً وجهاً لوجه، ولكنهم كعادتهم سرعان ما كانوا يديرون الظهر للفرار. وكلما سمعَ كلام سماحة الأمين العام السيد حسن نصر الله، بكى وعاهد الله من جديد أن يبذل روحه لأجل عزة وكرامة الأمة..
وأبى الحاج ساجد إلا أن يُصاب في هذه المعركة، فأُدخل إلى مستشفى الشهيد صلاح غندور حيث خضع لعملية جراحية، وضمدت جراحاته، ولكن ذلك لم يبعده عن المواجهة، فقد أدار المعركة وهو طريح الفراش، حتى لم يعد يتحمل المكوث أكثر في السرير، فنزع الضمادات، وارتدى ثيابه العسكرية ليقف جنباً إلى جنب مع المجاهدين.. وفي ليلة شعر الحاج ساجد بحركة غريبة بالقرب من النقطة المتمركز فيها، فأرسل أحد الإخوة ليستطلع الأمر، فإذا بأكثر من أربعمئة جندي إسرائيلي يتقدمون. لم يصدّق الحاج ساجد نفسه، وهو يمطرهم بوابل رصاصه، وهم لا يعرفون إن كانت السماء تمطر رصاصاً، أم أن ذخيرة رجال حزب الله لا تنفد.. في الليلة الأخيرة، أفطر الحاج ساجد وإخوانه المجاهدون على الطعام القليل وهو يقول: "تعالوا فإنه الإفطار الأخير لنا"، ثم استحمّ وغسل ثيابه قائلاً لهم: "لن أقابل وجه الله عز وجل بثياب متسخة".
وفي اليوم التالي أغار الطيران الحربي عليهم، فعلق أحد الأخوة تحت الركام، وأصيب الحاج ساجد، ولكنه لم يغادر مكانه، لأن أحد المجاهدين قد علق تحت الركام، فصار يساعده على الرغم من نزفه القوي، ولم يخالف العهد الذي قطعه أمام الله عز وجل على نفسه منذ بدايات الجهاد، وهو أن لا يترك جريحاً في أرض المعركة.. ولكنه هذه المرة لم يصمد أمام إصابته.. لقد نزف روحه على تراب بنت جبيل.. وإذا ظنّ الصهاينة أنهم تشفّوا بقتله، فإنهم يدركون جيداً أنه الرجل الذي حمل عمره ذخيرةً للجهاد، وأنه كان السبّاق في الميادين.. لقد استشهد القائد الحاج ساجد، في حربٍ كان لها بطلاً، وكانتْ له نقطة ختام..
الدوير/النبطية
دينا عماد قانصو
2021-07-16 22:39:46
إلى من ببطولاتهم وعزمهم حفظوا لنا عزتنا.. إلى من ببأسهم وقوتهم رفعوا لنا راية نصر خفاقة تعلو كما النجوم في سمائنا..إليك عماه..إليك يا شبح حزب الله..يا قائد الإستطلاع..عادت لنا ذكراك واشتد الحنين..نفتقدك..نشتاقك..لروحك ألف سلام..