مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

الشهادة عند الإمام علي عليه السلام

السيد بلال وهبي

 



هي الشهادة أروع أبواب الوفود على الله، وأجمل رواح إليه، بعد رحلة طويلة من الجهاد والعطاء والتضحية يمضيها المؤمن في حياته الدنيا. وهي أنبل موقف يسجله الإنسان في عمره المديد، ليكون الدم الذي ينزف من جسده صرخة حق في وجه ظالم ومستكبر ومتغطرس، وإعلاناً بالنجيع القاني عن رفض الطغيان وإباء الاستضعاف. وهي الفوز العظيم حين يخر المؤمن صريعاً على الأرض ويداه تمسكان باللواء، لتبقى كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى.

* المعبر إلى لقاء الله
هكذا هي الشهادة عند علي بن أبي طالب عليه السلام، ولو لم تكن كذلك لما قال حين خر صريعاً في محراب مسجد الكوفة: "فزت ورب الكعبة"(1). إن نيل الشهادة كان يشكل أحد الأهداف التي كان يسعى إليها الإمام علي عليه السلام، إذ يريد أن تكون الشهادة هي المعبر الذي يمضي به إلى لقاء الله. وقد أكثر من التصريح عن ذلك، وأعلنه في أكثر من موقف. كان يدعو الله تعالى أن يمنحه هذا الوسام، وأن يشرفه بهذه المنزلة السامية. ذلك أن الشهادة عند علي عليه السلام منحة ربانية لا يفوز بها إلا كل ذي حظ عظيم. فها هو ذا يعلن عشقه للشهادة وإرادته لها فيقول: "فواللهَ إني لعلى الحق، وإني للشهادة لمحب"(2). وفي ختام كتابه لمالك الأشتر لما ولاه مصر يسأل الله الشهادة، فيقول: "وأنا أسأل الله بسعة رحمته، وعظيم قدرته على إعطاء كل رغبة أن يختم لي ولك بالشهادة"(3). بل تراه عليه السلام يستبشر بالشهادة ويستبطئ تشرفه بها، سائلاً رسول الله صلى الله عليه وآله عن تلك اللحظة الغالية التي يلقى الله فيها مضرجاً بدمه تزفه ملائك السماء شهيداً إلى جنان الخلد ونعيم الأبد ولقاء المعشوق. فها هو ينقل لنا حواراً جرى بينهما فيقول: "فقلت: يا رسول الله، أوليس قد قلت لي يوم أحد، حيث استشهد من استشهد من المسلمين وحيزت عني الشهادة، فشق ذلك عليَّ، فقلت لي: أبشر فإن الشهادة من ورائك؟ فقال لي: إن ذلك لكذلك، فكيف صبرك إذاً؟ فقلت: يا رسول الله، ليس هذا من مواطن الصبر، ولكن من مواطن البشرى والشكر"(4).

هكذا يبشر النبي صلى الله عليه وآله علياً بالشهادة، فتطمئن نفسه أنها ستنال ما تسعى إليه، ويتهلل وجهه بالبشارة، لأن الشهادة عنده ليست بلوى يحتاج معها إلى صبر، إنما هي نعمة وعطية تستلزم الشكر والحمد. ولِمَ لا يغتبط علي بالشهادة إذ يبشر بها، وهو الذي كان يقبل عليها بعشق ورغبة عارمة، حتى كأنها الماء للعطشان في يوم قائظ؟! فكما يطلب الظمآن الماء عارفاً أن بقاءه به، فإن علياً يعلم أن خلوده توفره له الشهادة. وقد صرح عليه السلام بهذا العشق أكثر من مرة، وحرض أصحابه على تلك الرغبة فها هو يناديهم: "من رائح إلى الله كالظمآن يرد الماء؟! الجنة تحت أطراف العوالي، اليوم تبلى الأخبار. والله، لأنا أشوق إلى لقائهم منهم إلى ديارهم"(5). وكان عليه السلام يرد على الرعاع الهمج، الذين ينعقون بما لا يعون، والذين كانوا يتهمونه بالجزع من الموت حين يسكت عن حقه مهادناً خصومه، حفاظاً على الإسلام وقوته ومنعته، فيقول: "فإن أقل يقولوا حرص على الملك، وإن أسكت يقولوا جزع من الموت، هيهات بعد اللتيا والتي. والله، لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه"(6).

هيهات، هكذا يجيبهم، أبَعْدَ أن ركب علي الأهوال والشدائد، وخاض الغمار، من بدر إلى أحد فخيبر والأحزاب، وبارز مرحباً وابن ود، وبات على فراش النبي شارياً نفسه ابتغاء مرضاة الله، ما هاب في كل تلك الجولات والصولات سوى الله تعالى، بل كان يطلب الموت لحظة بلحظة، ونَفَساً بِنَفَسٍ، ولأنه كان يطلب الموت كان الآخرون يفرون من بين يديه حتى أنه أجاب من سأله: "بأي شيء غلبتَ الأقران؟ فقال: ما لقيت رجلاً إلا أعانني على نفسه"(7).  أَبَعدَ هذا يُتهم أنه يفر من الموت؟! وكيف يتهم بهذا؟! وهو الذي يستأنس بالموت استئناس الطفل بثدي أمه؟! فعليٌّ عليه السلام لا يرى في الموت قتلاً سوى انطلاقة إلى الحياة الأبدية الخالدة في عالم أوسع وأشمل، ونافذة نحو عالم الرضى والرضوان ونعيم الجنان، ويصرح عليه السلام أمام ولده بعد أن ضربه ابن ملجم لعنه الله: "والله، ما فجأني من الموت وارد كرهته، ولا طالع أنكرته، وما كنت إلا كقاربٍ وَرَد، وطالب وَجَد، وما عند الله خير للأبرار"(8). فعليٌّ لا تفاجئه الشهادة، ولا يصدمه موت يرد عليه، كيف وهو الذي كان يستبشر بالشهادة ويسأل النبي صلى الله عليه وآله عن أوان اللقاء، وهو الذي وصف المتقين وهو إمامهم وسيدهم: "ولولا الأجل الذي كتب الله لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقاً إلى الثواب"!؟ وتراه عليه السلام يمثل لحاله مع الشهادة التي طالما انتظرها بقارب ورد الشاطئ فاستراح أهله واطمأنوا بعد رحلة عاصفة وأمواج متلاطمة ورياح عاتية، أو كطالب وجد مطلوبه بعد أن سعى وراءه حثيثاً.

* عظمة الشهادة عند علي عليه السلام
ويذهب الإمام أمير المؤمنين أبعد من هذا، وهو يظهر لنا عظمة الشهادة والمكانة التي تحتلها في فكره. فهو حينما يخير بين الموت على الفراش وبين القتل في سبيل الله، يختار القتل، ولو كان بآلاف الجراحات. فهو مستعد لتلقي كل ذلك من أجل أن يفوز بالشهادة، لأن أعظم ما يمكن أن يقدمه المؤمن أن يبذل روحه في سبيل الله، بدل أن تذهب هدراً دونما أثر حين يموت دون أن يسجل موقفاً. إن دم الشهيد حينما ينهمر على الأرض، يهب أمته الحياة ويمنحها القوة والجرأة والإقدام، ويصنع فيها تحولاً تعجز عنه آلاف المنابر والمحطات المرئية والمسموعة والمحاضرات والكتب. وإن الشهيد حين تحمله الأكف، ويسار به فوق الرؤوس، يعطي للأمة من الزخم والقدرة والإباء ما لا يمكن أن يوصف ويعد. وكم رأينا في تجربة المقاومة الإسلامية من آثار وبركات للدماء الزاكية التي انهمرت من نحور الشهداء رضوان الله عليهم؟ حتى أن القوة التي نحن عليها اليوم، والتحول العظيم الذي شهدناه ولا نزال، كله من تلكم البركات. فلقد عجز أعداؤنا عن المواجهة، وقنطوا من الإنتصار علينا، والسبب أننا أمة ترى في الشهادة فوزاً ومنزلة لا يرتقي إليها إلا المحظوظون من أبنائها، وتؤمن بأن الجراح والإصابات والنحور النازفة هي وحدها التي أعطت وستعطي لأمتنا مجدها وكرامتها. ومن هنا، تكون الشهادة أعظم عند علي من الموت على الفراش، حتى وإن استلزمت الشهادة تَلَقّي ضربات السيوف وطعنات الرماح والنصال. فالإنسان ميت على كل حال، والفار من الموت غير مزيد في عمره، ولا محجوز بينه وبين يومه، فليمت الإنسان قاهراً عدوه بشهادته وإقدامه، خيراً من أن يعيش مقهوراً ذليلاً خانعاً قد لبسته الذلة والمهانة، يتسول العز فلا يجده، ويستعطي الكرامة فلا يلقاها، ويطلب الشرف فلا يُعطاه. يقول أمير المؤمنين عليه السلام كما روي عنه: "إن الموت طالب حثيث لا يفوته المقيم، ولا يعجزه الهارب. إن أكرم الموت القتل. والذي نفس ابن أبي طالب بيده، لألف ضربة بالسيف أهون علي من ميتة على الفراش في غير طاعة الله"(9). 

وصدق النبي الأعظم صلى الله عليه وآله إذ قال: فوق كل ذي بِرٍّ بِرٌّ حتى يقتل الرجل في سبيل الله، فإذا قتل في سبيل الله، فليس فوقه بر(10). فالبر كما نعلم هو التوسع في العطاء، بحيث يخرج الإنسان من إطار الذات ليعطي للآخرين مما يقدر عليه. وواضح أن أعلى درجات العطاء أن يعطي الإنسان دمه. ودمه الذي يعطيه لا ينحصر بفرد دون آخر، أو جماعة دون أخرى، إنما يعطي للأمة كلها، ليمنحها الحياة والقدرة والإنتصار.


(1) بحار الأنوار، ج42، ص239.
(2) ميزان الحكمة، المجلد الخامس، باب الشهادة، ص2006.
(3) نهج البلاغة، كتابه عليه السلام لمالك الأشتر.
(4) ميزان الحكمة، المجلد الخامس، باب الشهادة، ص2004.
(5) المصدر نفسه.
(6) نهج البلاغة، الخطبة 5.
(7) نهج البلاغة، الحكمة 318.
(8) نهج البلاغة، رسالة 23.
(9) نهج البلاغة، الخطبة 122.
(10) أصول الكافي،ج 2، ص 348

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع