لا يخفى على كل ذي وجدان أن الإنسان، بحسب فطرته الأصيلة وجبلّته الذاتية، يعشق الكمال التام المطلق، ويتوجه قلبه شطر الجميل على الإطلاق والكامل من جميع الوجوه. وهذا من فطرة اللَّه التي فطر الناس عليها. وبهذا الحب للكمال، تتوفر إرادة المُلك والملكوت، وتتحقق أسباب وصول عشّاق الجمال المطلق إلى معشوقهم.
* العشق الفطري
غير أن كل امرئ يرى الكمال في شيءٍ ما، حسب حاله ومقامه، فيتوجه قلبه إليه. فأهل الآخرة يرون الكمال في مقامات الآخرة ودرجاتها، فقلوبهم متوجهة إليها. وأهل اللَّه يرون الكمال في جمال الحق، والجمال في كماله سبحانه، يقولون: ﴿... وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ...﴾(الأنعام: 79) ويقولون: "لي مع اللَّه حال"(1). ولديهم حب وصاله وعشق جماله. وأهل الدنيا عندما رأوا أن الكمال في لذائذها، وتبيّن لأعينهم جمالها، اتجهوا فطرياً نحوها. ولكن على الرغم من كل ذلك، فإنه لمّا كان التوجه الفطري والعشق الذاتي قد تعلقا بالكمال المطلق، كان ما عدا ذلك من التعلقات عرضياً ومن باب الخطأ في التطبيق.
إن الإنسان مهما كثر مُلكه وملكوته، ومهما نال من الكمالات النفسية أو الكنوز الدنيوية أو الجاه والسلطان، ازداد اشتياقه شدّة، ونار عشقه التهاباً. فصاحب الشهوة، كلّما ازدادت أمامه المشتهيات، ازداد تعلق قلبه بمشتهيات أخرى ليست في متناول يده، واشتدّت نار شوقه إليها. كذلك النفس التي تطلب الرئاسة، فهي عندما تبسط لواء قدرتها على قطر من الأقطار، تتوجه بنظرةٍ طامعة إلى قطر آخر، بل لو أنها سيطرت على الكرة الأرضية برمتها، لرغبت في التحليق نحو الكرات الأخرى للاستيلاء عليها. إلاّ أن هذه النفس المسكينة لا تدري بأن الفطرة إنّما تتطلع إلى شيءٍ آخر. إن العشق الفطري الجبلّي يتجه إلى المحبوب المطلق. إن جميع الحركات الجوهرية والطبيعية والإرادية، وجميع التوجهات القلبية والميول النفسية، تتوجه نحو جمال الجميل الأعلى على الإطلاق، ولكنهم لا يعلمون، فينحرفون بهذا الحب والعشق والاشتياق الذي هو براق المعراج وأجنحة الوصول إلى وجهة هي خلاف وجهتها، فيحرفونها ويقيّدونها بلا فائدة.
* مَنْ أصبحت الدنيا أكبر همه
لقد ابتعدنا عن المقصود، وهو أنه لمّا كان الإنسان متوجهاً قلبياً إلى الكمال المطلق، فإنه مهما جمع من زخرف الحياة، فإن قلبه يزداد تعلقاً بها. فإذا اعتقد أن الدنيا وزخارفها هي الكمال، ازداد ولعه بها، واشتدت حاجته إليها، وتجلّى أمام بصره فقره إليها. بعكس أهل الآخرة الذين أشاحوا بوجوههم عن الدنيا، فكلّما ازداد توجههم نحو الآخرة، قلّ التفاتهم واهتمامهم بهذه الدنيا، وتلاشت حاجتهم إليها، وظهر في قلوبهم الغنى، وزهدوا في الدنيا وزخارفها. كما أن أهل اللَّه مستغنون عن كلا العالميَن (الدنيا والآخرة)، متحررون من كلتا النشأتين وكل حاجتهم نحو الغنى المطلق، متجلّياً الغنى بالذات في قلوبهم، فهنيئاً لهم. إذاً، يمكن أن يكون مضمون الحديث الشريف إشارة لما مرّ شرحه من قوله: "من أصبح وأمسى والدنيا أكبر همه، جعل اللَّه الفقر بين عينيه، وشتت أمره، ولم ينل من الدنيا إلا ما قسم له. ومن أصبح وأمسى والآخرة أكبر همه، جعل اللَّه الغنى في قلبه، وجمع له أمره".
ومن المعلوم، أن من يتجه قلبه إلى الآخرة، تغدو أمور الدنيا وصعابها في نظره حقيرة سهلة، ويجد هذه الدنيا متصرمة، ومتغيرة، ويراها معبراً ومتجراً وداراً للابتلاء والتربية، ولا يهتم بما فيها من ألم وسرور، فتخف حاجاته ويقل افتقاره إلى أمور الدنيا وإلى الناس، بل يصل إلى حيث لا تبقى له حاجة، فيجتمع له أمره، وتنتظم أعماله، ويفوز بالغنى الذاتي والقلبي. إذاً، كلّما نظرت إلى هذه الدنيا بعين المحبة والتعظيم، وتعلق قلبك بها، ازدادت حاجتك بحسب درجات حبك لها، وبان الفقر في باطنك وعلى ظاهرك، وتشتّتت أمورك واضطربت، وتزلزل قلبك، واستولى عليه الخوف والهم، ولا تجري أمورك كما تشتهي، وتكثر تمنياتك ويزداد جشعك، ويغلبك الغم والتحسر، ويتمكن اليأس من قلبك والحيرة، كما وردت الإشارة إلى بعض ذلك في الحديث الشريف. فقد روي في "الكافي" بإسناده عن حفص بن قرط، عن أبي عبد اللَّه الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنه قال: "من كثر اشتباكه بالدنيا كان أشد لحسرته عند فراقه"(2). وعن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبد اللَّه الصادق عليه السلام يقول: "من تعلق قلبه بالدنيا، تعلق قلبه بثلاث خصال: هم لا يفنى، وأمل لا يدرك، ورجاء لا ينال"(3).
* شمِّر عن ساعد الجد
أما أهل الآخرة، فإنهم كلّما ازدادوا قرباً من دار كرم اللَّه، ازدادت قلوبهم سروراً واطمئناناً، وازداد انصرافهم عن الدنيا وما فيها. ولولا أن اللَّه قد عين لهم آجالهم، لما مكثوا في هذه الدنيا لحظة واحدة. فهم كما يقول أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب عليه السلام: "نزلت أنفسهم في البلاء، كالتي نزلت في الرخاء، ولولا الأجل الذي كتب اللَّه عليهم، لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقاً إلى الثواب"(4). جعلنا اللَّه وإياكم منهم، إن شاء اللَّه. إذاً، يا عزيزي، بعد أن عرفت مفاسد هذا التعلق والحب، وأدركت أن ذلك يفضي بالإنسان إلى الهلاك، ويجرّده من الإيمان، ويجعل دنياه وآخرته متشابكتين مضطربتين، فشمّر عن ساعد الجد، وقلّل، حسب طاقتك، التعلق بهذه الدنيا. إجتث جذور حبها من نفسك، وازهد في خيراتها المشوبة بالألم والعذاب والنقمة، واطلب من اللَّه أن يعينك على الخلاص من هذا العذاب وهذه المحنة، ويجعل قلبك يأنس بدار كرمه تعالى: "وما عند اللَّه خير وأبقى".
(1) إشارة إلى الحديث المشهور المنقول عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله "لي مع اللَّه وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل" بحار الأنوار، ج94، ص56.
(2) و(3) أصول الكافي، كتاب الإيمان والكفر، باب حب الدنيا، ح16 17.
(4) نهج البلاغة، الخطبة 193 (الشيخ صبحي الصالح)