نسرين إدريس
اسم الأم: سمية مرتضى
محل وتاريخ الولادة: بعلبك 21 - 6- 1986
الوضع العائلي: عازب
رقم السجل: 163
محل وتاريخ الاستشهاد: الشياح 8 آب 2006
في فلك جبهته تدور النجوم، وهو القمر في ليلة تمامه.. يمشي، لا الأرضُ تحمله، ولا الغيوم تحوطه، لكأنه صدىً مرّ في هذه الدنيا، يتردد مع كل نسمة. زائرٌ اختصر كثيراً من الزمن الذي أراده الجميع أن لا ينتهي.. في ليلة الثالث عشر من شهر رجب، صلّى علي الرضا صلاته الأخيرة، وضُربَ رأسه بُعيد صلاة المغرب بأطنانٍ من القذائف المحرمة دولياً، فهتف قلبه: "فزت ورب الكعبة"، وهو الذي كان عمره ممهوراً بعشق الإمام علي عليه السلام، فعلى أوراقه الخاصة، وحاسوبه الشخصي، وأوراق أهله ورفاقه، رسم بكلماته عشقه للإمام عليه السلام ..
وعلى مسافة يقل بعدها عن ثلاث دقائق، كان والده في منطقة الشياح عندما تعرضت للقصف العنيف، ولم يخالج ظنّه خاطر أن تكون البسمة الساحرة، والهدوء الأخاذ، قد قُطفا هناك.. وعليُّ، الأخلاق والتهذيب، القيَمُ والفضائل، لا ينبس ببنت شفة إلا إذا كان الكلامُ مزاوجاً لتصرفاته، فقد تربّى على أن يكون الإبن البار للمقاومة الإسلامية، فحزم إيمانه العميق زاداً ليقطع طريقه الذي ولد فوجد نفسه فيها، وكبر ففهم معانيها، ولم تزده المعرفة والسير قُدماً في درب الجهاد إلا يقيناً..
قبل أن يولد علي، رأى والده في الرؤيا أن سريراً في السماء تتدلى منه حروف آية الكرسي ذهبيةً، فوق حسينية آل اللقيس في بعلبك، فتفتحت الغبطةُ في فؤاده وهو يحملُ ولده بين ذراعيه، ليؤذن له في أذنه أذان الصلاة والجهاد. وتحت سماء بعلبك، عاش "علي الرضا" الذي سُمّي باسمه تيمناً بالإمام الرضا عليه السلام يرتعُ في أحيائها القديمة، وينهلُ من تاريخها القديم والحديث تعاليم الحياة الحرّة. تعلّم من السواعد كيف تُحرَثُ لجج الحياة بالصبر والتأمل، وكيف يرمي الإنسانُ بشباك تجلّده ليصطاد أحلامه.
حملَ علي بداخله ارتباطاً عميقاً وحنيناً يحرق لواعج القلب لأهل البيت عليه السلام. وقد أرضعته والدته، الهاشمية النسب، مع الحليب ذلك التعلّق العجيب الذي ترك في روحه مسحةً من الغربة التي حولته إلى باحثٍ عن مكانٍ له، لا يمكن لحدوده أن ترتسم في هذه الدنيا.. تلك اليدان المباركتان زرعتا فيه الفضائل، ولقد ضخ قلبها الحنان فيه، فتميّز بمحبة الآخرين، ومساعدتهم وايثارهم على نفسه، وقد ترك لها كلمات تحفظها عن ظهر قلب: "إلى أمي العزيزة يا أغلى وأروع ما خلقه الله في حياتي، أسألك الرضا والدعاء بأن يحشرني الله مع أجدادك عليهم السلام، والشهادة هدية خصّها الله بشيعة محمد وآل محمد صلى الله عليه وآله سلم". عندما تعلّقت يداه للمرة الأولى بضريح الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام في إيران، شعر بأنّ المرسى قد لاح بين تخبّط أمواج الحياة، وأيقنَ أن إحساسه بالحنين إلى مكانٍ تستقر فيه روحه لن يخبو إلا عند لقاء أحبائه، وكانت تلك اللحظة من أكثر اللحظات سروراً وبهجةً في حياته..
أمضى علي الرضا أوقات فراغه بممارسة هوايته المفضلّة، وهي صيانة الحواسيب والأدوات الكهربائية، ولم يروِ الوقت الطويل الذي كان يمضيه في ذلك حب الاستطلاع والمعرفة، وقد تحولت هذه الهواية إلى مهنةٍ طوّرها له والده بعد أن صار يساعده في المحل الذي يملكه لصيانة الحواسيب. كان علي الرضا قليلَ الكلام، هادئ الطباع، صديقاً لأخوته، يتابع أحوالهم الدينية والاجتماعية، ويشاركهم همومهم وهواجسهم، ولطالما أشعل لهم ببصيرته النافذة شمعة أضاءت أمام أعينهم الزوايا المظلمة، فكانت قراراتهم تنحى المنحى السليم دون أن تشوبها شائبة.. لقد تمنّى الشهادة، وهذا دأب كل مجاهد. ولأنه أراد أن يُحمل على الأكف ويسمع "بأمان الله يا شهيد الله"، جعل من صلاته عروجاً إلى الله عز وجل، ومن صيامه تنسّكاً في مغارة الانقطاع عن هذه الدنيا التي لم تترك حيلة لتجذبه إليها، ولكنها وجدته كجدّه أمير المؤمنين، قد طلّقها ثلاثاً لا رجعة فيها أبداً.
لقد رأى علي الرضا أن الدينَ أكبر من تنسكٍ وتهجّد، فهو جهادٌ وتضحية، فكان طري العظم عندما التحقَ بدورته العسكرية الأولى، وهو لم يكن غائباً عن الدورات الثقافية، وكان مشاركاً في العديد من الأنشطة، لذا لا يحدد له تاريخ التحاقه بالمقاومة، إلا لحظة مولده. وكان شاباً مبادراً، متفانياً في عمله ومتقناً له، ولم ينسَ للحظة أنّ أي عمل يقوم به، صغيراً كان أو كبيراً، هو تحت أنظار صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه، وسيترك الأثر في تعجيل أو تأخير ظهوره عجل الله تعالى فرجه.. بعد نجاحه في الثانوية بدرجة جيد جداً، انتقل إلى بيروت ليتابع دراسته الجامعية في اختصاص هندسة الاتصالات في جامعة بيروت العربية. ولا يخفى على أحد أن المجاهد ينتقي دائماً الاختصاص الذي تحتاجه المقاومة، فهو يحملُ شهادته ليقدّم أفضل خدمةٍ في صفوفها قبل أن تهبه هي "الشهادة" التي تليق به. وكانت تلك الفترة فرصة اكتشاف علاقة جديدة بينه وبين والده، الذي كان صديقاً مقرباً ورفيقاً وفياً ومرشداً ناصحاً، وشريكاً أساسياً في خيار المقاومة، فتتلمذ على يديه من جديد، وساعده ذلك على رؤية وفهم الحياة، وهو يخطو أولى خطواته في عمر الشباب.
لم يترك علي الرضا لأي نشاطٍ أن يعتب عليه، فهو يتنقّلُ من مكانٍ إلى آخر، وكأنه يريد أن يرتشف من كل تجربة ما يروي فيه ظمأه للمعرفة. وقد بدأ بالمشاركات الجهادية في محاور الجنوب، وطوّر من قدراته القتالية، وكلما سمع بعملية عسكرية انفرجت أساريره، وإذا ما نُعي شهيد مشى في التشييع ناظراً إلى السماء قائلاً: "العقبى لنا". أنهى سنته الجامعية الثانية، وتحضّر لقضاء صيفٍ وفق برنامجٍ جهادي، ولكن الثاني عشر من تموز قلب كل الموازين. وكما كان متوقعاً، فقد وقف علي الرضا مع الرجال في ساحِ النزال، من البقاع إلى الضاحية الجنوبية، لم يتوانَ للحظة عن القيام بما أوكل إليه من مهام. وفي اللقاء الأخير له مع رفيقيه في النقطة التي كانوا يتمركزون فيها، عانقهما طويلاً، ورفض أن يبقى أي منهما معه لأنهما متأهلان، وقد استغربا إصراره على معانقتهما قبل أن يغادرا، لأنهم بقوا طوال فترة الحرب مع بعضهم البعض.
كان في الحرب متفانياً صابراً، مبادراً ومقداماً، لم ترهبه القذائف التي لاحقته، ولا الطائرات التي حصدت وجه الضاحية، وقد دمرّت منزلهم في حارة حريك، ليبتلع الركام الكثير من حاجياته وذكرياته.. عندما حان وقت استراحته، وأثناء عودته من المركز، صادف مروره في منطقة الشياح، في الوقت ذاته الذي تعرض فيه مبنى سكني يتجمّع فيه العشرات من النازحين والمدنيين للقصف العنيف وبالأسلحة المحرّمة دولياً.. لم يسمع أحد أي خبر عنه، وقد جرّب والده التواصل معه وبقي هاتفه الخلوي خارج الخدمة ليومين، حيث وجد جثمانه المبارك تحت ركام المبنى في الشياح، ومعه حاسوبه الشخصي وبطاقته..
كأجداده، استشهد علي الرضا غريباً، وقد همست دماؤه آخر همسات العشق حين الوصال "فزت ورب الكعبة". وقد زار والديه في عالم الرؤيا بعد استشهاده عدة مرات وطلب إليهما أن لا يحزنا لأنه لا يزال حياً. وتبقى الدمعةُ العالقةُ في حشرجات القلب، تؤدي الصلاة للقاءٍ قريب في مقعد صدق عند مليك مقتدر.