مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

في عيد الأم الأول بعد رحيلها أُم حسن بجيجي: شهيدة الألم الصامت

ولاء إبراهيم حمود

 



بعد مرور سنوات قليلة على استشهاده، جمعتني بزوجته صدفةٌ لم تتكرر... تحدَّثنا خلالها كثيراً عن القائد، الشهيد، محمد بجيجي. حدَّثتني عنه مقاوماً حيَّاً لم يغب، مُعلِّماً ربَّى أجيالاً لن تنساه، وزوجاً محباً لا بديل عنه، وأباً لأبنائه الذين يشتاقون حضوره كلما طالت أيام البعد، فهو وحده برأيها والتعبير بحرفيته لها من يؤنس وحشة لياليهم ونهاراتهم ويدفئ صقيع غربتهم في عالم غارقٍ بالنزاعات والأنانيات. وافترقنا... وقد احتفظتُ حتى ما بعد كتابة هذه السطور باحترامي لهذه السيدة الفاضلة، التي خاضت وبجدارة ـ وانتصرت مواجهات الجهاد الأكبر بعد استشهاد رفيق دربها، ومعها أبناؤهما الخمسة، الذين كبروا برعايتها، لأنها لم تنشغل عنهم حتى بنفسها.

* وداع حاملة الأمانة
ومنذ أشهر أحزنني نبأ وفاتها بعد صراع مريرٍ مع المرض. حملتُ إلى أسرتها ألمي لفقدها وندمي لعدم التعرف إليها أكثر... فهي أمانة قائد كبيرٍ بيننا، له فضل ريادة المقاومة في البقاع الغربي ولبنان كله. وعدت، أحمل من أبنائها ملامح امرأة شجاعة قاومت صقيع الغربة، ووحشة الوحدة، وألم المرض، وقسوة يتم أبنائها... فربَّتهم أبناء قائدٍ ما زال يقاوم بمن ربَّاهم ثم تركهم بعده. إنها الحاجة آمنة ديب العمار، أم حسن بجيجي، وهي ملامحها وكما رسمها أبناؤها حسن وعناية وزينب وصهرها (ابن شقيقتها) في هذا التحقيق الذي أردتُه وأسرة مجلة بقية الله تحية أقلِّ الوفاء للقائد الكبير وزوجته المصون التي عاشت بعده، شهيدة ألمٍ صامت طيلة عشرين عاماً من فراقه... حباً ووفاءً.

* مكمن العظمة
تعود "عناية" بذاكرتها إلى اللحظة الأولى التي تلقت فيها الوالدة نبأ استشهاد الوالد: "رأيت دموعها ولمرة واحدة لحظة تلقيها النبأ. لم تشعرنا يوماً بأننا أيتام، كانت تكتم في قلبها أحزاناً بحجم الكون، كنا نعجز عن اكتشافها رغم قربنا منها. يؤلمني أنني عندما بدأت أفهمها، بدأت تحزم أمتعة الرحيل. لقد فهمناها في آخر أيامها أكثر، بآلامها المكبوتة وأوجاعها الصامتة". وعن مسيرتها العلمية، تضيف عناية: "لقد زرعت فينا حب العلم، في قرية بعيدة، مضافاً إليه الالتزام والتدين". وعن علاقتها بالآخرين، ترى عناية أن صديقاتها بكينها بحرقةٍ غير طبيعية، لأنها كانت تقف معهن في معظم مشاكلهن، رغم معاناتها "حتى صديقاتي، كنَّ يُحيِّينها ويتمنينها أُماً لهن". وعن علاقتها بالمقاومة، ترى عناية أن والدتها رحمها الله ـ، وبتأثير من والدها الشهيد كانت تعتقد أن المقاومة تحتاج المتعلمين كما العسكريين، فقد كانت تكرر "أن العلم ضروريٌّ، يساهم في تطوير أداء المقاومة، لأننا بذلك نواجه إسرائيل بأقوى أسلحتها". "لقد وعينا بفضل أمي شخصية الإمام الخميني قدس سره والشهيد السيد محمد باقر الصدر وآخرين، لذلك أفكر بالمقاومة كجزءٍ كبير من حياتنا اليومية ونعيش جوَّها في بيتنا. ما زلت أعتقد أنني ابنتها من خلال أمي وأبي. إنني لا أحتاج إلى طلب انتساب إلى المقاومة، فهي بيتنا وبيتنا مقاومة. هكذا أنشأتنا أم حسن بعد أبي حسن. كان التزامنا الديني أكبر همها، وقد أفرحتها كثيراً إجابة أخي حسن لها، عندما سألته عن الأم التي سيختارها بعدها : "لديَّ أمٌ ثانية، إنها السيدة الزهراء عليها السلام". لقد تفرَّغت أمي لتربيتنا كلياً. لم تعمل خارج البيت، رغم إجازتها في اللغة الانكليزية وآدابها. إن تضحيتها بطموحها وإلغاءها ذاتها لأجلنا، مكمن عظمتها... والآن"، تختم عناية بحرقةٍ يخففها الرضا بقضاء الله "عندما أنزل إلى المقابر في مشغرة، أشعر أن عائلتي قد اكتملت هناك. أعتقد أنهما قد التقيا بعد أن طال الفراق. لقد آن لأمي أن ترتاح، بعد كل هذا العناء. وهي تستحق دون شك محبة الله ورضوانه".

* منبع الطمأنينة والقوة
لا تختلف ملامح "أم حسن"في حديث ابنتها زينب عن صورتها في حديث "عناية"، ولكنها تقارن وضعها في صفها مع اليتيمات من زميلاتها اللواتي كن يبكين دائماً وكانت تستغرب ذلك، لأنها لم تضطر يوماً للبكاء بفضل حُسْنِ رعاية أمها لها، ما أعطاها اطمئناناً وسلاماً نادرين ليتيمةٍ في عمرها. تحتفظ "زينب"بابتسامتها التي كانت تمنحها القوة والشجاعة، وبحرصها الدائم على راحتها، وتذكر أنها رحمها الله رفضت مجيئها لتوديعها، لأن هذا الأمر كان يربكها، رغم رغبتها القوية برؤيتها. تتذكر زينب أنها كانت ترفض في لحظاتها الأخيرة رؤيتها مع شقيقاتها وشقيقيها يبكون. فقد طلبت من إحدى أخواتها أن ترفع رأسها وتمسح دموعها، لأنها لا تحب رؤيتها باكية. تقاوم زينب غصة الذكريات القريبة، وتضيف: "لم أعرف قيمتها إلا بعد أن تزوجتُ وأنجبتُ. كانت ترفض إيذاء حتى من آذاها. علمتنا محبة الجميع وأوصتنا بعدم الحزن بعدها، لأننا اعتدنا فراق الوالد قبلها. لم تكن تحب البكاء أمام صورة معلقة على الجدار، لذلك لم ترضَ بتعليق صورة لها بعد وفاتها، وهذا ينسجم كثيراً مع رفضها للظهور الإعلامي، إلا نادراً ولأجل الحديث عن سيرة الوالد الجهادية الحافلة بإنجازات عظيمة، جهاداً وتربية، لم يُنصفا إعلامياً برأي الوالدة".

* الأم المجاهدة
"هي أمي، قبل أي شيء"بهذه الكلمة بدأ "حسن"حديثه القصير عن والدته الراحلة، "نفس كونها زوجة الشهيد أبي حسن بجيجي يعني أنها كانت المضحية بحياتها الزوجية وأمومتها لأجل المقاومة قبل استشهاده. لم تكن حياتها عادية، كان بيتها مفتوحاً للضيوف والمقاومين. أتساءل كيف كانت توزع وقتها بين البيت والأولاد والزوج والواجبات الجهادية التي التزمتها بِحُريةٍ، كتحضير الطعام للمجاهدين وتأمين ملابس الشتاء لهم في ثغور المقاومة؟! أعتقد أنها اجتازت امتحاناً صعباً للغاية وتفوقت قبل وبعد استشهاده. رفضت الزواج بعده، لتؤدي أمانته، وتحفظه فينا. رفضت مثلها دلال يتيم الأب، أرادتني رجلاً، كأبي، فاتخذتها صديقة. لم يفهمني أحدٌ كما فعلت. كنت أكثر من واكبها في أيامها الأخيرة، لذلك أتمنى أن أكون أسرع من يلحقها... استشهاداً طبعاً". آلمتني كلمته الأخيرة رغم ارتباطها بفوز الشهادة. تمنيت له طول العمر على دروب الجهاد التي شقها والده، القائد الكبير، وعبَّدتها والدته الجليلة، الفاضلة، صبراً وجهاداً أكبر يفوق جهاد الميادين المشتعلة.

* لا تختصر حياتها بصفحات
على وقع المواجهات، تركت لصفحاتي هذه ختام تحقيقٍ أردته تحية وفاءٍ وأراده صهرها وابن شقيقتها دمعة عرفانٍ على شهيدة الوجع المكبوت إلا أمام الله، فتركته يرسم بالغصَّة والدمعة المحرِقة، آخر ملامح أم حسن بجيجي بقوله:
"كانت صديقتي التي لم أصادف في حياتي سيدةً تفوقها ثقافةً وعلماً وديناً وتقى، في زمن كانت فيه المتدينات، المتعلمات قلةً قليلة. وبهذه الفضائل مجتمعة، تلقت نبأ استشهاد زوجها المجاهد العظيم الذي ربى أجيالاً ما زالت حتى اليوم تذكره وما زال يؤثر فيها... لقد قامت بدورها مع أبنائها كأمٍّ فقط، لأنها لم تسمح لغياب القائد بأن يمحو ملامحه من ذاكرة أبنائه، فكانت المقاومة أمانته لديها، والعلم ثقافةً وسلوكاً أهم ما حفظته لأولادهما. إن خالتي أم حسن لا تختصر بصفحات... فصبرها على غياب زوجها ورعايتها لأيتامه بعده وهي في عز صباها، وحرصها على استقبال ضيوفها بعد أن تمسح دموع الألم بابتسامةٍ حافظت عليها من عهد أبي حسن، هذه الصلابة تؤكد أن المقاومة علمٌ عظيمٌ وهذا البيت مدرسته، صرحه الأكاديمي الكبير بجناحيه اللذين ما غابا إلا ليلتقيا، وما التقيا إلا ليملآ هذا الكون حباً وجهاداً... ومقاومة". تتقدم أسرة مجلة بقية الله من آل العمار وبجيجي بأحرِّ التعازي، وتغمد الله الفقيدة بواسع رحمته وحفظ أبناءها امتداداً لخط المقاومة والمجاهدين، إنه سميع مجيب.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع