نسرين إدريس قازان
بطاقة الهوية
اسم الأم: غنية المسمار
محل وتاريخ الولادة: الهرمل 23/03/1985
الوضع العائلي: عازب
رقم السجل :10
محل وتاريخ الاستشهاد: عيناثا 07/08/2006
يوسف وعيناثا وقميصٌ مُخضّب بالدماء.. هناك في الجنوب حيث رسم آخر محطات عمره في لحظة اختصرت زمن الأمة.. زمن الحرب والانتصارات والهزيمة، الزمن الذي كُتب فيه أن إسرائيل هي (واللهِ) أوهن من بيت العنكبوت.. فتى ولد وترعرع تحت سماء الهرمل. تشربت روحه من نهر العاصي ما جعله عصياً على الانكسار، وفي بيتٍ التزم باكراً نهج المقاومة، شحذ يوسف قراره مذ كان يلعب في أزقة البلدة مع الرفاق، ورمى غده بسهمٍ أصاب لبّ الهدف، فالمكان الحقيقي الذي يبحث عنه هناك حيث يكون على تماس مباشر مع العدو الصهيوني..
رمق يوسف حلمه بعين التمني في أن يكون مع أولئك الذين يخاف الخوف منهم.. ولكم حفظت عيناه مشاهدات غذت فيه الحماسة للالتحاق باكراً بصفوفهم؛ فذخر روحه بأولى الرصاصات؛ الصلاة.. فهو ابن المسجد الذي درج على ارتياده منذ الطفولة، وثابر على أداء الصلاة فيه حتى فريضة الصبح، وقد اشترط على ربّ عمله أن يخرج من عمله وقت الصلاة للذهاب إلى المسجد متراس المجاهدين، فإحياء المناسبات، ودموع المجالس العاشورائية التي أحيت يباس القلب، إلى مواكب تشييع الشهداء، لم يكن كل ذلك مجرد مشاركات بقدر ما كانت سلوكاً في طريق؛ وخصوصاً أنه ابن بيئة تشربت تعاليمها من مدرسة الرسول صلى الله عليه وآله وآل بيته عليهم السلام، فكانت أحاديثهم نبراس الهداية وسبيل الرشاد. كانت أمه قد قررت أن تسميه "محمداً"، ولكنها رأت في الرؤيا أنها أنجبت صبياً ووضعته على السرير لينام، فكاد يقع، ولكنها استنجدت بابنتها الكبرى لتنتبه إلى أخيها "يوسف"، فقررت حينها أن تسميه "يوسف"..
عاش عمره يقرأ انتصارات المقاومة. وكانت سنة ولادته السنة التي انكفأ فيها العدو الصهيوني وتخلى عن قبضته الحديدية بعد محاصرة المقاومة له، لينتقل إلى زمن الحزام الأمني الذي سرعان ما تحول إلى خطّ نار ومواجهة مع المقاومين.. وإذا كان يوسف لم يوفق لأن يكون من تلك الثلة آنذاك، لكنه حفظ منها ما ساعده في حربه.. يوسف الطفل الهادئ والخجول جداً الذي لم يخفف وعيه المبكر من شدة حيائه، أبت الحياة الصعبة إلا أن تعلمه دروسها باكراً، فاكتشفت فيه الصلابة والصبر، وكان مبادراً في حمل الهمّ والتفكير في كيفية تأمين راحة العائلة. ولم تضق به السبل، فترك دراسته ليمتهن مهنة "الألمينيوم". و لطالما استيقظ باكراً؛ حمل المعول وشق طريقه إلى البستان، ليقلّب التراب الندي عن جذوع الأشجار ويقلع بيديه الشوك الذي يحوط الشتول والزرع.
وكما مع أهله، كذا مع أبناء بلدته، كان أسرع من يبادر إلى المساعدة، فلا يكاد يسمع عن أحد يبني منزلاً، أو يقوم بعمل حتى يكون يوسف عنده، يساعد في نقل الاحجار ورصفها، ونقل المعدات، والبسمة الخجولة تشرق على وجهه الغض الفتي، وإذا توفى الله أحد أبناء القرية، كان يسهر بالقرب من مثواه في الليلة الأولى يتلو القرآن الكريم عن روحه حتى طلوع الصبح.. وإذا ما حلّ بهم ضيفٌ، لا يقبل أبداً أن تقوم أمه بخدمته، بل يفعل ذلك بنفسه ليخفف عنها عبء العمل، فهو كان يحتار كيف يساعدها ويعينها، حتى أن ملابسه لم يكن يقبل بأن تغسلها له، بل هو من يقوم بغسلها.. تشرق الشمس على وجهه الحيي، وهو يعبر في أزقة البلدة حانياً رأسه خجلاً، يلقي السلام على الناس من دون أن يرفع عينيه عن الأرض، ويمضي تتبعه دعوات الناس ليحرسه الله لوالديه.. يصل إلى المنزل يقف بالقرب من والدته في المطبخ، يقبلها ويحضنها، قبل أن يذهب إلى عمله..
أما نهار الجمعة، فهو يوم تفقد جميع الأقارب، فبعد أن يغتسل غسل الجمعة، ينطلق من الصباح الباكر يزور أقاربه، وقد واظب على صلة رحمه حتى آخر اسبوع من حياته.. كان مع ثلة من الرفاق لا تفترق إلا نادراً، اتسمت جمعتهم بالإيمان والمحبة، يلتقون في كل يوم، يسهرون و يتسامرون، ويخبرون بعضهم أحلام الغد.. الغد الذي اختاروه طريقاً للمقاومة منذ نداوة العمر.. ولم تكن الجلسات جميلة من دون يوسف، فهو صاحب النكتة الحاضرة والروح المرحة.. وكما تشاركوا في التنقل بين درس في المسجد، وبين دورة ثقافية، ومن ثم إلى الدورات العسكرية، فقد كانوا يقومون معاً بالرحلات وإقامة المخيمات. وفي إحدى النزهات إلى جرود الهرمل، وقع صديق يوسف وأصيب بجروح، مباشرةً أسعفه يوسف ونقله على الدراجة النارية إلى المستشفى.. كان يوسف ينتظر بفارغ الصبر أن يلتحق رسمياً بصفوف المجاهدين..وما إن تحقق حلمه، حتى حمل بداخله مسؤولية هذا الشرف العظيم، فكان يلتفت إلى أصغر الأمور في شؤونه الدينية، وفي تعاطيه مع أهله والناس من حوله.. وقد عكس في ذلك نموذجاً حياً لرجال المقاومة الاسلامية..
وقد شارك يوسف في العديد من المهمات الجهادية، والدورات العسكرية.. تميز يوسف بحماسة غريبة، فقد كان لا يكاد يطيق أن يجلس للحظات، وكأن الدنيا لا تسعه، كان يوسف يدخر من مصروفه ليرسل والدته لأداء فريضة الحج. وصار يردد أمام رفاقه بأنه يشعر بأن رحيله عن هذه الدنيا قريب جداً، وهو خائف على أمه كثيراً بعد استشهاده.. وصدق حدس يوسف، ولم تسمح الحرب له بتحقيق حلم إرسال والدته إلى الحج. فمع بدء العدوان الاسرائيلي على لبنان على أثر عملية الأسر في عملية الوعد الصادق، التحق يوسف بمركز عمله. وتحين الفرصة للصعود إلى الجنوب، وانتظر ذلك على أحر من الجمر، وما إن طلب إليه الالتحاق بالمجاهدين في بنت جبيل، حتى ذهب سريعاً إلى المنزل حيث ودع والديه، وطلب إلى والده أن لا يقلق عليه إذا تأخر.. في مدينة بنت جبيل، رصد يوسف والمجموعة التي معه تقدم دبابات اسرائيلية، فأصر على أن يكون هو الذي يواجهها لوحده. وفعلاً، تصدى يوسف للدبابات والتحق به رفاقه، ليقاتلوا حتى آخر طلقة رصاص.. هاجر يوسف إلى حيثُ تستكين الروح. فهو منذ أن شقَّ فجرُ الشباب أولى خيوطه في عمره، سرعان ما مهره بنقطة الخاتمة الحمراء.. كانت الحياة بكل رحابتها ضيقة على يوسف، وفوهة البندقية أوسع من المدى أمام عينيه..