آية الله الشيخ محمد تقي المصباح اليزدي
﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ (الفرقان:72). تحدثنا فيما مضى حول الآيات الأخيرة من سورة الفرقان والتي تصف عباد الرحمن. وقد ذكر الله تعالى مجموعة أوصاف خاصة لهؤلاء الأشخاص البارزين وذلك بما يقتضيه المقام. وممّا ورد تبيّن لنا أنه كما ينبغي لعباد الرحمن الاتصاف بمجموعة من الصفات الإيجابية، كذلك يجب عليهم الابتعاد واجتناب بعض الصفات السلبية مثل: الشرك بالله، قتل النفس المحترمة والزنا. أضف إلى ذلك مجموعة أخرى من الصفات الواردة في الآيات الشريفة.
* اجتناب شهادة الزور
أشارت الآية 72 من سورة الفرقان إلى صفتين سلبيتين لعباد الرحمن: الأولى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾ والثانية: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾. وقد اختلف المفسرون فيهما حتى أن العلامة الطباطبائي (رحمه الله) لا يذكر وجهاً خاصاً متعيناً لهما. أما سبب الاختلاف فهو أن كلمة "الشهادة" في اللغة العربية لها معنيان: الأول هو تقديم الشهادة في المحكمة كما جاء في قصة النبيّ يوسف عليه السلام: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا﴾ (يوسف: 26) حيث يتقدم شاهد بشهادته، والثاني بمعنى الحضور عندما نقول "شهد المجلس" أي أنه حضَرَه. المقصود من "شهادة الزور" نشير فيما يلي إلى الوجهين في شهادة الزور:
أ الشهادة بالباطل: إذا كان المقصود من الآية الشريفة أداء الشهادة فهذا يعني أن من جملة صفات عباد الرحمن أنهم لا يشهدون بغير الحق. فشهادة الزور تعني الشهادة بالباطل والتي يراد منها إظهار الباطل على صورة الحق. فعباد الرحمن هم أشخاص لا يشهدون بالباطل على الإطلاق.
بـ الامتناع عن حضور مجالس المعاصي: الاحتمال الآخر المستفاد من كلام العلامة الطباطبائي (رحمه الله) هو أن المقصود من الشهادة الحضور. والزّور هنا هو أمر أعمّ من الشهادة الباطلة أو المزورة فكل غير حق هو زور، وهو باطل؛ فيكون المعنى أن عباد الرحمن هم أشخاص يجتنبون الحضور في أماكن المعصية والحرام. أما الذي أوجب ترجيحه هذا الاحتمال فهو ذيل الآية الذي جاء فيه: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ حيث يزداد التناسب بين العبارتين إذا اعتبرنا أن الشهادة تعني الحضور، فيكون المعنى أن هؤلاء لا يحضرون مجلس الباطل حتى لو مروا بالصدفة فيه، فلا يتوقَّفون، بل يعبرون بشكل كريم.
ج الجمع بين الاثنين: الوجه الثالث هو أن يكون المقصود من "يشهدون" معنى أعم من أداء الشهادة أو الحضور؛ أي أن نتصور المقدار المشترك بين الاثنين فنقول: إن المقصود يشمل الاثنين معاً، كما يستعمل الشخص لفظاً ويريد به ما يشمل كلا المعنيين. باختصار نقول: إننا أمام صفتين مذمومتين ينبغي لعباد الرحمن اجتنابهما. وشهادة الزور من جملة الذنوب الكبيرة إذا كان المقصود منها الشهادة بالباطل. أما إذا كان المقصود من "لا يشهدون الزور" عدم الحضور في مجالس الباطل، عند ذلك تصبح الدائرة أوسع فتشمل الذنوب الصغيرة أيضاً.
* هم عن اللغو معرضون
أما فيما يتعلق بعبارة ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ فقد جاء في الآيات الأولى من سورة المؤمنون: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ (المؤمنون: 3). وأشارت الآيات الأولى من سورة الفرقان إلى هذه المسألة باعتبارها من الصفات الأساس لعباد الرحمن حيث جاء في الآية الشريفة: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ (الفرقان: 63) فيكون مفهوم الإعراض عن اللغو مناسباً لهذه الآية.
وللإعراض عن اللغو مصاديق متعددة، منها: أن يعرض هؤلاء بأنفسهم عن عمل اللغو؛ أي أنهم لا يرتكبون اللغو، فاللغو في أصل معناه يعود إلى العبث وعدم الفائدة، والذنوب هي القدر المتيقَّن من اللغو، الذي يشتمل على المكروهات والمباحات التي لا فائدة منها في الدنيا والآخرة. أما المقصود هنا فهو معنىً أخصّ من ذلك فهؤلاء الأشخاص ليس فقط لا يأتون بعمل لَغْويّ، بل يمرّون عليه مرور الكرام. وتشمل الآية الشريفة: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ لغو الإنسان؛ أي الأشخاص الذين لا يرتكبون عملاً فيه لغو. وأما قوله: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ فهي مسألة أخرى وهي أنهم يمرّون مرور الكرام إذا صودف وجودهم ضمن مجموعة من الأشخاص الذين يرتكبون عملاً لغوياً.
* التعاطي الكريم
ما هو المقصود من قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾؟ هل المقصود أنهم يمرون مرور الكرام عندما يشاهدون من يرتكب اللغو وقد أشرنا إلى أن القدر المتيقن من اللغو هو العمل الحرام؟ يبدو أن الآية الشريفة تريد أمراً آخر. وهنا يمكن الاستعانة بالآية 55 من سورة القصص التي توضح الآية السابقة إلى حدود معينة: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾. يُفهم من الآية الشريفة أن المقصود من اللغو هو اللغو الكلامي الذي يواجه عباد الرحمن ويكون منطلقاً من الآخرين. فالمسألة هنا هي مسألة سماع اللغو حيث يقول تعالى ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ﴾، ولا يقول: "إذا رأووا اللغو" أو "شهدوا اللغو" أما عبارة "مروا باللغو" فهي عبارة عامة. ويتضح مفهوم الآية المقصودة إذا عملنا على المطابقة بين الآيتين حيث لا يتعارض هذا المفهوم مع مسألة النهي عن المنكر إذ تشير آية سورة القصص إلى أن المؤمنين هم أشخاص أصحاب وقار، لا يتصرفون بشكل استفزازي وعصبي عندما يواجهون الجاهلين، بل يتعاملون بوقار وهيبة حتى لو عمل الجاهلون على الاستهزاء بهم أو إهانتهم. وهنا يخاطب المؤمنون الجاهلين: ﴿لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾. وتكمل الآية الشريفة: ﴿لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾. يعتقد المفسرون في هذا الخصوص وبالأخص العلامة الطباطبائي (رحمه الله) أن قوله تعالى: ﴿لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾هو لسان حال فلا يخاطبونهم قائلين: أنتم جاهلون، وإلا فلو خاطبهم المؤمنون ونعتوهم بالجاهلين، لبدأ الجاهلون من جديد بإيجاد المشكلات باعتبار أنهم أهينوا. وعلى فرض أن الصدفة اقتضت مواجهة هؤلاء الأشخاص فلا بد من العبور الكريم السالم بهم، فيخاطبهم المؤمن بقوله: "سلام عليكم"، وهذا يعني أن ما عندنا هو السلام والأمن. إذا كان هذا هو مفاد الآية الشريفة فينبغي إرجاع اللغو إلى اللغو الكلامي بقرينة تلك الآية، حيث يكون الكلام اللغوي من أبرز مصاديقه. أمّا إذا كان المقصود من "اللغو" معنىً أوسع من ذلك، عندها يكون المقصود من ﴿مَرُّوا بِاللَّغْوِ﴾ أي عندما يواجهون من يقوم بأعمال قبيحة، كما لو واجهوا من يقوم بالرقص أو الاتيان بمعصية معيَّنة، فإنَّهم يبادرون إلى النَّهي عن المنكر إذا توافرت شروطه وليس المراد من ﴿مَرُّوا كِرَامًا﴾ أنهم لا ينهون عن المنكر لأن النَّهي عن المنكر ليس من صفات عباد الرحمن الخاصة بهم، بل هي تكليف واجب ينبغي على الجميع الإتيان به.
* النزعة الداخلية للإنسان في التماهي مع المحيط
يميل الإنسان وبسبب عامل داخلي للمشاركة في عمل اللغو. أما القرآن الكريم فيشدد على الاحتراز من هذه المشاركة. من جملة ذلك ما جاء في سورة المؤمنون: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ وما جاء في سورة القصص أيضاً: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ﴾ وما وجاء في الآية الشريفة التي نتحدث عنها: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ (الفرقان: 72). وهذا يشير إلى وجود آفة اجتماعية قد يبتلى بها بعض الناس، فجاءت هذه التأثيرات القرآنية لتقف حائلاً أمام وجود هذه الآفة، بالأخص إذا كان المراد من "اللغو" كل كلام باطل. جاء في الآية 140 من سورة النساء: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾. ويستعمل القرآن تعبيراً خاصاً في هكذا أماكن، يقول: ﴿نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِين﴾.
وجاء في سورة المدثر: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ*قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ*َولَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ*وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ﴾ (المدثر: 43ـ 45). قد يخوض مجموعة من الأشخاص في موضوع معين ويبحثون فيه بشكل جماعي، فيبرز التعاون الذي يراد منه تنظيم ذاك العمل. هناك عامل داخلي في الإنسان يجعله يفضِّل التماهي مع من هم في عمره. وقد يحمل هذا العمل آثاراً سلبية. إذا ابتلي الشخص بصديق فاسد فإنه سيقع تحت تأثير عمله الفاسد. من هنا يتحدث أهل جهنم حول سبب وصولهم إليها ويقولون: ﴿َكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ﴾، كنا نشاهد رفاقنا وأصدقاءنا يقومون بالعمل الفلاني فكنا نلحق بهم من دون بحث أو تحقيق أو دليل، بل كل ما كنا نتطلع إليه هو الكون معهم. من هنا تتحدث الآية 140 من سورة النساء وتطلب من الأشخاص: ﴿فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾. فما دام بحثهم يدور حول تضعيف الإيمان وإيجاد الشبهات في الدين وإهانة المتديِّنين، فلا ينبغي لكم الجلوس معهم، لا بل عليكم الابتعاد عنهم. ثم توضح الآية، في مقام التأكيد، أنكم إذا فعلتم ذلك فستكونون منهم: ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ﴾ والنتيجة: ﴿إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ ولن تكون نتيجة أعمالكم سوى النِّفاق، والإيمان الضَّعيف يوصل إلى النِّفاق.
* أهمية اجتناب صديق السوء
بناءً على ما تقدّم فإن من جملة صفات عباد الرحمن أنهم ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾. والخوض في آيات الله من جملة مصاديق اللغو. فإذا واجه عباد الله هكذا أشخاص، فلا يشتركون معهم، لأن شأن عباد الله أجلّ من أن يخوضوا في آيات الله، ولا يجالسونهم، بل عليهم اجتنابهم وتجاوزهم بشكل كريم حتى لا يتلوَّث المؤمنون بهم. وقد أوضحت هذه الآية بشكل صريح أهمية معاشرة الآخرين وبيَّنت الآثار السيئة لصديق السوء. وتحدث بعض الآيات الشريفة بشكل صريح أكثر حيث يقول بعض الناس يوم القيامة: ﴿يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا*يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا*لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي﴾(الفرقان: 27 29). ما يجب الالتفات إليه أنَّ القرآن الكريم يتحدث عن الصفات التي يجب على عباد الرحمن اجتنابها فذكر الشرِّك وقتل النَّفس ثم ذكر اجتناب اللغو. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن بعض موارد اللغو ليست حراماً فعلى المؤمن أن يلحظ المكان الذي يجلس فيه إذا كان يطمئن إليه وأنه لن يترك عليه أثراً سلبياً مثلاً. وهنا مسألة تربوية خفية خلاصتها أن تأثير المعاشرة السيئة قد يكون كبيراً إلى مستوى يصل إلى كبائر الموبقات.