الشيخ محمد باقر كجك
صُمتُ النَّهارَ كلَّه، مضنىً من تعبِ الشَّمس اللاهبة، ومن العيون التي تجرحُ ورَقِيَ العتيق... والآن، وأنا في محراب الليل، أكاد أفقد كل الّلغات، وأجلسُ على ركبتَي الهوى والأنس، أفلا أتكلَّم؟!
سأبوحُ لكَ بكلِّ ما في قلبي، وأتركُه لك خالياً لتفعلَ به ما تحبّ.
*كنتَ في قلبي
إلهي! أوَّلُ أخطائي التي سأعترفُ بها، أنَّني كنتُ وطوال هذه السَّنوات الماضية، أبحثُ عنكَ في كلِّ مكان، ولا أجدك. لأكتشفَ اليومَ أنِّي أخطأتُ في البحث، ولم أرَ جيداً، فقد كنتَ في قلبي، ولكنِّي ظننتك أنَّك لن تكونَ إلى هذه الدَّرجة قريباً مني1. فمن دلَّني على الطريق الخطأ؟
إلهي! وقلتُ: إنّه من المهم أن يبنيَ الإنسان نفسَه، وأن يحاول تحسينها وتجميلها. فركضتُ في كلِّ مكان، أحملُ نفسي على كفّين من رجاءٍ وعجلة، ولم أحترس كثيراً لموضع قدمي.. لأجدَ نفسي أكثرَ من مرّة، مَرْميّاً على طريق الوجد، وبعض السَّالكينَ يمشونَ ورؤوسهم مرفوعةٌ إلى السَّماء.. رؤيتي لنفسي أعمتني الطَّريق.
إلهي! كنتُ أظنّ أنَّ طريقَ حبّك مملوءةٌ بالمصاعب والأذى، وقد ذُقتُ من الأذى ألفَ طعمٍ، ومن المصاعب كلّ لون، وكنتُ أظنُّ أنّي بدأتُ أتذوَّقُ فاكهةَ جنَّتك. وقد وجدتُ الليلة أنَّ شعوري بالوجع وتألُّمي من الصَّعب2، دليلٌ على أنّي لم أكن حينها أفكِّر بك، وأعيشُ على وقع حبِّك.. بل كنتُ أسيرُ في دربٍ يبدأ منّي لينتهي إليّ.
*راضٍ بك، وعليك
إلهي! حبُّك؛ لا يوجد فيه حزنٌ ولا فرحٌ، ولا تعبٌ ولا راحة، فيه أنت فقط! وكم ذا يعاني محبُّك لكي لا تقول له كلَّ يوم "لن تراني"3 التي لا أمل بالرؤية فيها، بل ليسمعك وأنت تقول له "واقترب" التي لا حدَّ للقُرب فيها!
إلهي، كنتُ أفزعُ من كلِّ شيء، وأكره كلَّ ما يؤلم، أخافُ من الموت، والجوع والمرض، والحزن، والغربة، والفقر، والحرب، والخسارة.. كنت أفزع من المفاجآت. ولكن، عندما فتَّحتَ لي عينيّ بيديك، رأيتُك في كلّ شيء، وقبل كلّ شيء وبعد كلّ شيء، فارتسمت على روحي ابتسامةٌ منعشة، لا يفسدها شيءٌ إلا سخطك.. فأنا الآن راضٍ بك، وعليك.
*إلهي خذْ بيدي
إلهي، كنت أظنُّ لقاءَك يحتاج إلى مقدمات لا تنتهي، ووسائط لا تُحدّ، وأورادٍ مكرّرة.. غير أنّي لما رأيت شباباً أصغر منّي تبتسم مهجهم لوردةٍ حمراءَ فوق جبهات العشق.. علمتُ أنّ هناك دروباً خلفيةً للعشق، سهلةً للعشّاق، لا يوجد فيها وشاةٌ، ولا سيئو الظّن4.. فهل تأخذ بيدي في ذلك الدرب؟ هل تقبلني سيّداً بين سادة قافلة الوجود؟
إلهي! وجه الإنسان مرآة قلبه! فكم ذا رأيت في هذه السّنة، وجوهاً تلمع بلون قارونيٍّ، وأخرى تضطرب لا تعرفُ لها شكلاً، وأخرى مغرَقةٌ بأشكال الخزي.. ورأيت بين الشّباب والشّابات وجوهاً أثّر فيها النّظرإلى وجهك5، فتكادُ تعكسُ وجهَك! وعلمتُ أنّي لا أحتاج للآخرة كي أراك! فإمّا أراكَ في قلبي، وإمّا أراكَ في قلوب إخوتي.. فما أجملنا بك.
*حبُّك يؤنس وحشة الطّريق
إلهي! كثرةُ الأيادي التي تدلُّ عليك، تُريني أنَّهم لا يعرفون أين أنت، ولم أعد أسمع من أحدٍ. طلبت من أذني أن لا تقبل أيّ كلامٍ، وطلبتُ من عيني أن تراقبَ من لا يتكلّم ولا يشير بيده، وتبحث عمن يسير من دون تلكؤ فهو وحده الذي يعرف أين الله.
إلهي! كلّ النّاس تعرف أنّنا على حقّ، تعرف أنّنا لا نريد إلا وجهك، ووجهك: في تراب الجنوب، وحجارة الأقصى، ودماء الأبرياء، وحجاب فتاةٍ خجلةٍ، وكفِّ أب متعب، ولمسةِ أمٍّ حنون.. لذلك هم يغلقون علينا الطرق؟ ويضعون في دروبنا الحطب؟ ويرمون على ظهورنا بالأوساخ؟ حبُّك هو الذي يسيّرنا في الطريق الموحش، ويجذبنا في الصحارى القاحلة، فكيف نتركك وأنت لم تتركنا؟ وكيف نحول وجهنا عنك وأنت مقبلٌ علينا؟
*إلهي بحق الحق من الخلق
إلهي! أخبرك الليلة، أني سأنزع عن نفسي كل الأثواب التي ارتديتها، وأرمي بكل ما قرأت جانباً، وأحرقُ أوراق ذكرياتي والصور، فلن أكون في هذه الليلة مشغولاً بأي شيء.. سأبسط نفسي تحت سمائك. سأقرّ لك بأني أنهيتُ في هذه السنة كلّ اعترافاتي بالتقصير: لقد تحققت من أني ضعيف جدّاً، وفقيرٌ ومحتاجٌ وغريبٌ ووحيد، دموعي لم تعد تنفع، وقلبي يدقّ على خواءٍ مرعب، وروحي تتنفسُ هواءً ثقيلاً.. كأني أنا وحدي في الكون! كأني أنا وحدي أحمل ثقل الكون وأقف على حافةِ أفقٍ أحمر.
إلهي! إلهي! بحق صلة الحق بالخلق: محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بحق نور الوجود وطيف الجمال الساكن في الأفق الأعلى: فاطمة عليها السلام، بحق القالع باب الهوى وقاتل شيطان الفتن ومنشئ العشق الأتم: عليّ عليه السلام، بحق حماة ساحة نورك: الأئمة عليهم السلام.. بحق الباعث كل آمال الأنبياء، وصاحب الختم على مسيرة الحق في الخـــــلــق: المـــؤمّل عجل الله تعالى فرجه الشريف.. لم يبق لديّ إلا هذه الليلة، أدعوك بكلّ دعاءٍ تسمعه، وأخبرك أنّي أفرغتُ قلبي لك، فاملأني بك، واجعل ملائكةَ العشق تطوفُ في شراييني.. واجعلني كعبة العشاق، وجبل الطور، وكربلاء.
1-
وَيُحْجَبُ طَرْفِي عَنْهُ إِذْ هُوَ نَاظِرِي
فَمَا بُعْـدُهُ إلاَّ لإِفْرَاطِ قُرْبِهِ
التلمساني
2-
يا غائباً عن عيني لا عن بالي |
القرب إليك منتهى آمــالي |
أيام نواك لا تسل كيف مضت |
والله مضت بأسوأ الأحوال |
الشيخ البهائي
3
إذا سألتُكَ أن أراكَ حقيقةً |
|
|
فـاسمَحْ ولا تجعلْ جوابي لن تَرى |
ابن الفارض
4-
يا خَليّ البالِ هَلا |
تَدخل الحان وَتَعشق |
إِنّ لَيل الصَدّ وَلّى |
صَباحُ الوَصلِ أَشرَق |
شيخ الإشراق السهروردي
5-الإمام الخميني، في لقاء مع شباب الحرس أيام الحرب المقدسة.