نسرين إدريس قازان
اسم الأم: جميلة خير الدين
محل وتاريخ الولادة: حي الفيكاني ـ رياق 8/12/1966
الوضع العائلي: متأهل وله 3 أولاد
رقم السجل: 32
محل وتاريخ الاستشهاد: حداثا 12 /08/2006
منذ أن كان موسى طفلاً صغيراً، اختار الطريق التي سمع أنها ذات الشوكة، فقبلت روحه التحدي، ومشى وحيداً مترقباً. وفي مسجد قريته رياق كان يجلسُ ذلك الفتى الصغير منصتاً إلى إمام المسجد وهو يعظُ المصلين الذين كان أغلبهم من الكبار في السن. عوّد موسى نفسه على أداء الصلاة أول وقتها. وقبل أن يعود إلى البيت كان يقرأ القرآن بصوته الجميل. وحافظ على أن يكون دائماً أول الحاضرين في إحياء الشعائر الإسلامية، في وقت كان أقرانه فيه يلعبون في الحارات. تربى موسى في بيتٍ فقير ومستضعفٍ، نهل منه حبّ أهل البيت عليهم السلام، ذلك الحبّ الذي حمله جذوة أنار بها دربه في هذه الحياة.
وعلى الرغم من أن الالتزام الديني كان قليلاً بين الناس آنذاك، إلا أن موسى سعى لتعلّم الأحكام الشرعية، ولم يفوّت أي فرصة تزيد من صقل معرفته، فرافق الأكبر منه سنّاً من المؤمنين، فكَبُرَ الصغير قبل أوانه، وفهم شؤون الدنيا كشابٍّ واعٍ. عاش موسى يتيم الأم، ومع أنه صغير إخوته استطاع بقلبه الكبير احتضانهم، ودثرهم بعطفه وحنانه. وكان يخفّف عنهم، ويهديهم إلى سواء السبيل. وعندما تضيقُ الدنيا من حوله، يحملُ أحزانه ويزور ضريح والدته فيأنس بالجلوس قربه ويبث بصمت همومه التي لم يتلفظ بها يوماً أمام أحد.
* بنور القلب اختار الطريق
كان موسى دائم الحضور بين الإخوة المجاهدين، يخدمهم ويقدّم إليهم المساعدة. وفي سنة 1986 بلغ العشرين من عمره، فحسم أمر التحاقه بصفوف المقاومة الإسلامية، ليس بسبب حبّه للجهاد، وإدراكه أن المرحلة الزمنية آنذاك تستلزم من المرء تركه لكل شيء في سبيل الدفاع عن الوطن، فحسب، بل لأنه أيضاً أبصر بنور قلبه أن هذه هي الطريق التي توصله إلى الله عزّ وجلّ. وكان ذلك بداية هجرةٍ إلى سكنٍ لم يستطع موسى مغادرته: "المحاور". وسعى بعد عمل متفرق بين الجنوب وبيروت، أن يركز عمله في الجنوب، فأسّس حياته بما يتوافق مع بقائه قريباً من مركز عمله. وقد أولى العمل جُلَّ اهتمامه، فعاش عمره مجاهداً متفانياً، تجلت فيه صفات الشجاعة والوفاء والإيثار والتضحية، فإذا ما أوكلت مهمة جهادية إلى أحد الإخوة يبادر إلى تنفيذها، وإن كان قد مرّ وقت طويل عليه وهو يعمل، فلا يعبأ بالتعب. وفي كثير من الأحيان كان يخدم عن بعض المجاهدين في أيام مأذونيته، إذا ما طرأ عليهم ظرف خاص، واضعاً نصب عينيه هدف تنفيذ العمل على أكمل وجه. وقد نال خلال مسيرته الجهادية أوسمة جراح جرّاء عدة إصابات أصيب بها في عمليات عسكرية متفرقة، إصابات كان وجعها الوحيد أنها لم تهبه الشهادة. لقد كانت السعادة تكلِّل روحه وهو يخدم المجاهدين، وكيف لا يخدمهم وراحتهم بوابة رضاه تعالى؟
* خير قدوة
وكما كان يهتمُّ بمساعدة المجاهدين، كان ينصتُ بتفهم ووعي إلى همومهم، فيعطيهم النصيحة الحكيمة، ويسعى جهده لتأمين راحتهم، فكان لا يأكل قبل أن يتأكد أن جميع من معه قد شبع، ولا يغمض له جفن إلا بعد أن ينام من حوله. وقد تركت هذه المحبة والطيبة أثراً كبيراً في قلوب المجاهدين الذين عملوا معه، فكان لهم خير مثال وقدوة. ثلاثة عشر عاماً قضاها ابن البقاع في أقاصي الجنوب، هناك بمحاذاة فلسطين المحتلة، حيث عُرف بين الناس بدماثه أخلاقة، وطيب معشره، وخدمته لمن حوله بمحبةٍ وطيبة. كان عندما يعود إلى المنزل يخلعُ من جعبته كل التعب، ليستكين بين أكف أطفاله الصغار الذين ملؤوا حوله الحياة بهجةً وسروراً. وأولى تربيتهم، تربية إسلامية صحيحة، كل اهتمامه، فحرص على متابعة شؤونهم، ومعرفة التفاصيل، حتى إذا ما حانت ساعة الرحيل، تركهم بمأمنٍ من فتنِ الدنيا.
* الحرب كانت البشارة
في أيامه الأخيرة، تغيرتْ ملامحُ موسى، واتّسمت بنورٍ خفيّ ترك في نفسِ كل من رآه سؤالاً.. تغيّر صمته، وسكناته، وصار يشعرُ بثقل الأمكنة أينما حلّ، فالغريبُ الذي لم يأنسْ إلا بسكنِ المحاور، صار يشعر بغربةٍ هناك، وما أقسى غربة المرء بين الأحبة، ولكنه كان يدري أن هذا الضيقَ هو لتأخر وصوله، وخشيته من أن يطول الانتظار أكثر.. وأعطته الحرب البشارة، فحمل سلاحه وانطلق إلى حيث يتحققُ وعد الله، بعد أن ودّع عائلته، وخرج من المنزلِ الذي عاش فيه عمراً بعيداً عن مسقط رأسه وأهله لينتقل مع رفاق دربه من قرية إلى أخرى، حيث خاضوا ضد العدو الصهيوني أعنف المواجهات التي قُتل فيها عددٌ من الصهاينة.
لقد كانت المواجهات عنيفة جداً. المقاومون يلاحقون الجنود الصهاينة من مكانٍ لآخر. وقد استطاع موسى أن يقتل العديد منهم، فإذا ما حُسمت المواجهة، انسحب المجاهدون إلى مكان آمن، حيث طُلب إليهم المكوث، ريثما تغادر الطائرات الحربية والاستطلاعية السماء. فانتظروا المساء، هناك حيث لم يكن معهم قطرة ماء ليسقوا عطش قلوبهم، تيمموا وصلوا صلاة المغرب.. حمل موسى جعبته ومشى ورفاقه في طريق العودة، ومن بعيد رأى الطائرات الإسرائيلية تقصف بلدة حداثا، فتوقف عن المسير، وجلس على صخرة ينظرُ إلى الصواريخ التي تدّمر منزله.. وما إن همّ بالرحيل، عاجلته رصاصات غزيرة من قبل العدو الذي كشف مكانه، فأغمض عينيه بسلام، فما هذه إلا النهاية التي أراد، وبالقرب منه تمدد سلاحه الذي التحمَ معه، غير عابئ بجنون الصواريخ، فإن لحظة الالتقاء بالأحبة لحظةٌ قدسية.. وعاد أسد البقاع إلى عرينه، محمّلاً على أكف الذين اشتاقوا إليه، ولم يأبهوا بضراوة الحرب التي التهمت كل الأمكنة، فموسى عاد وسلاحه فلقَ بحر الخوف، ليسلك التائقون إلى الله طريق الأمن، وليعطيهم بدمه آخر درس. فهو، وبعد طول سنوات، وضع حقيبة سفره عن ظهره ليرتاح.