مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

قراءة في كتاب: تراب كوشك الناعم: سردية تعبـق بروح الأصالة

زينب الطحان

 



يجذبك العنوان، الذي يحمل صفات أدبية بامتياز. هو كتاب من نوع السيرة الشخصية، يحكي فصولاً من حياة القائد الإيراني الشهيد الحاج عبد الحسين برونسي "رحمه الله". وقد يفاجئك أنَّ كتاباً من هذا النوع يحظى بتقديم من ولي أمر المسلمين القائد السيد على الخامئني "دام ظله" يسرد فيه بعضاً من مميزات هذا الشهيد الأبي، إذ يقول الإمام "دام ظله" خلال لقائه عائلة الشهيد:"إن شهيدنا العزيز عندما شارك بالحرب لم يكن عنده المعارف الجامعية ولم يكن يحمل عنواناً ولقباً جامعياً بشكل رسمي، إلا أنه استطاع في إدارة الحرب أن يترقّى وأن يصل إلى رتب عالية وأصبح شخصيّة مرموقة، شخصيّة جامعة تحمل اسم قائد لواء ثم بعدها نال درجة الشهادة. وهذه الشخصيّة لو لم تنل وسام الشهادة لاستطاعت أن تبلغ مقامات ودرجات رفيعة من الناحية الظاهرية".

يلخِّص السيد القائد بعضاً من سيرة هذا الشهيد النوراني ويذكر أنه لم تتوفر له الظروف ليكمل دراسته الجامعية والتخصصية، ولكنه رغم ذلك كان فذاً ونابغة في قيادة المعارك العسكرية، حتى أوصلته إلى أعلى المراتب على الجبهة. وهو قبل الثورة كان يعمل بنّاءً في ظاهر الأمر، ولكنه في الواقع كان مجاهداً عاملاً في صفوف الحركة الثورية الإسلامية الإيرانية، مما جعله يتحمل الكثير من العناء في سبيل الإسلام. وكذلك كان له الدور العظيم بعد انتصار الثورة الإسلامية، بحيث إن الفرصة كانت متوفرة له من أجل بلوغه مرتبة الكمال الإنساني. ومواضيع حياته ومواقفه جعلت اسمه مذكوراً على لسان الجميع، حتى العدو الصدّامي، الذي عيّن قادته جائزةً من أجل الحصول على رأس هذا القائد الشجاع، حيث إن اسمه كان يتردد في محافل العدو وإعلامه.  "تراب كوشك الناعم" كتاب حمل اثنين وسبعين قصة، تروي بنفحات أدبية سيرةً ذاتيةً لشخصٍ ينكر حب الذات إلى أبعد الحدود. بين دفتي هذا الكتاب تجد قصصاً تنادى إلى كتابتها مجموعة من الأهل والمعارف المقربين والأصدقاء الأوفياء.. كلهم انبروا ليسردوا لنا على طريقتهم العفوية جوانب رائعة حفلت بها حياة الشهيد القائد الإسلامي الإيراني الحاج عبد الحسين برونسي "رحمه الله".

* أدب "عفوي" يؤدي جماليته الفنية
تتساءل وأنت تقلّب صفحات الكتاب بين يديك: ماذا يمكن أن يذكر هؤلاء الكتّاب الذين لا علاقة لهم بالقصة وبشروطها الفنية والجمالية عن حياة شخصية غنية بالمواقف والعبر؟!.. ولا يطول بك الوقت حتى تكتشف وأنت تقرأ أن الشغف قد دفع بك قدماً إلى الإمام وأن الكلمات المكتوبة تحيط بمشاعرك وتأسرك من كل جانب حتى لدرجة أنك لا تقوى على ترك الكتاب لتغوص أكثر بين شواطئ الحروف وتعابيرها الشيقة.  وهذا ما يحدو بنا إلى الإعجاب الكبير بهؤلاء الكتّاب غير المحترفين كتابة القصة وقد برعوا في التعبير ليوصلوا إلينا الفكرة والهدف منها في أجلى وضوح، يتمتع بجمالية الأداء العفوي النابع من عمق الإخلاص لحالة إنسانية هي في الحقيقة تعبر عن قضيتهم الكبرى وهي الجهاد لحماية الثورة الإسلامية من الذين تكالبوا عليها ليخمدوها بعدما سطرت انتصاراً باهراً على أكبر نظام عميل للاستكبار العالمي في الشرق والعالم الإسلامي تحديداً.
 
* جهاد النفس
"تراب كوشك الناعم" يأتي إليك بحكايات فريدة من نوعها، ذلك النوع الذي يؤرّخ للجهاد الأكبر في ظل جهاد آخر كان يجري على الثغور والوديان والحدود، وهو جهاد النفس، وهو هذا النوع لم يحدث أن خطت فيه كتابات قصصية أو روائية في عالمنا المعاصر، سواء في بلداننا العربية والإسلامية أم الأوروبية والغربية. إذ تسرد لنا بعض القصص عن الشهيد القائد برونسي "رحمه الله" حرصه الشديد على تدينه، وعلى الحلال والحرام، فقد بلغ به الأمر أن أبدل الطعام الذي جلبته أمه إلى عائلته خلال زيارة لهم بطعام آخر من نفس النوع دون أن تدري أمه كي لا يحرجها، ودافعه لهذا التصرف أنه لم يكن يرى في تقسيم الأراضي الذي اعتمدته حكومة الشاه، في سنواتها الأخيرة، أنه مبرئ للذمة الشرعية، فبالتالي هو رأى أن كل ما ينتج عن هذه الأرض حرام أكله. وهنا تبرز لنا دماثة أخلاقه ورقيه في التعامل مع من حوله. كما أنه كان شديد الحرص على أن لا يطعم أولاده إلا من تعب جبينه حتى لو بقوا أياماً يشكون الجوع. لم تدفعه حياة الفقر الشديد، الذي كان يحيط بعائلته، يوماً إلى استغلال إمكانيات الآخرين حتى لو لم يكن له يد فيها. فهو مثلاً كان يترك أكثر من عمل لأن صاحب العمل يغش الزبائن. فهل تجد مثل هذا الرجل في أيامنا الراهنة؟!  ولا تختلف دماثة أخلاقه عن طهارة نفسه، ففي قصة شيقة هي الأخرى يرويها أحد أصدقائه، ويدعى كاظم الحسيني، أنه خلال خدمة الشهيد العسكرية في جيش الشاه المقبور، وُكِّل بخدمة إحدى النساء الساقطات من حاشية قادة العسكر، ولكنه بمجرد أن رآها سافرة بشكل فظيع عاد أدراجه رافضاً هذه الطاعة، وتحمّلَ نتيجة رفضه هذا أن عوقب بتنظيف الحمامات لمدة طويلة حتى يعود عن رفضه ولكنه أصر بشكل أثار استغراب قادته، إذ من يتجرأ ويرفض الأوامر العسكرية خصوصاً إذا كانت تتمثل بخدمة امرأة "جميلة"؟

* علاقته بأهل البيت عليهم السلام
أما حكايات الجبهة فقد كان لها نصيب وافر بين صفحات هذه القصص. وهي حكايات تأخذك إلى عالم الجهاد الأكبر ليبقى أيضاً هو الدائرة الأساس المتحكمة في مسار هذه الشخصية بطلة القصص. هذا القائد برونسي جسّد بسيرته أسمى معاني العشق الإلهي خلال جهاده على الثغور والجبهات القتالية. وإلى جانب كونه شديد الالتزام بالأوامر العسكرية المعطاة له، كان يبرع أيضاً في تهيئة نفوس الشبان المجاهدين الذين كانوا يشاركونه أيام الجهاد وساعاته الطويلة. كان بالنسبة إليهم أباً حنوناً وأخاً صادقاً ومرشداً وجيهاً ما فتئوا يعتمدون عليه في حل العديد من مشاكلهم، سواء تلك التي كانت تصادفهم على الجبهة أو تلك المتعلقة بحياتهم الشخصية. 

ولكن أكثر ما يلفت نظرك في معظم القصص أنها تبرز بوضوح تعلق القائد الشهيد برونسي "رحمه الله" بأئمة أهل البيت عليهم السلام، وخصوصاً بالسيدة الزهراء عليها السلام. وهي في الحقيقة بطلة القصة التي حملت عنوان الكتاب "تراب كوشك الناعم"، حيث راح يناديها في لحظة حرجة جداً من المعركة العسكرية الدائرة على الحدود العراقية الإيرانية. كانت الخطة تقتضي من المجموعة المهاجمة التقدم إلى الأمام، ولكن واجهتهم عوائق لم تكن في الحسبان، فصار القائد حائراً بين أمر الرجوع متقهقراً أو التقدم والتضحية بكل عناصر المجموعة. في هذه اللحظة، التي توقف عندها الزمن، راح القائد برونسي "رحمه الله" يعفر وجهه بالتراب ويبكي بكاءً حاراً حتى غطى التراب المبلل وجهه ولاحت له السيدة الزهراء عليها السلام ترشده إلى مخرج آمن من الكمين. وكان أن التزم بتعليماتها بحرص بالغ حتى حققت المجموعة التوفيق في مهمتها وعادوا يحملون أقل خسائر ممكنة..!! وعندما أدرك الأخوة المجاهدون المرافقون له دقة ذلك القرار وخطورته الكبيرة بحال كُتب له الفشل أيقنوا أن للقائد كرامات وقد أحاط بهم اللطف الإلهي. والقائد هذا لم يخبر أحداً من رفاقه بهذه الرؤية العرفانية حتى أصر عليه مساعده أن يخبره كيف عرف بدقة تلك الخطوات والظلام كان دامساً لا يرون فيه حتى أصابع أيديهم!!

* حين ولدت فاطمة
وهناك رواية ثانية تثير الدهشة والاستغراب، ولكنها تدفعنا لليقين في آن واحد، هي حين أتى المخاض زوجته، والوقت كان عند الغروب. تروي الزوجة أنه أخذها للبيت ووعدها أن يأتيها بالقابلة على وجه السرعة، ولكن خلال الطريق عرض له عمل ضروري يخص منشورات تتعلق بالثورة، فانشغل بالأمر حتى نسي إحضار القابلة ولم يتذكر إلا بعد منتصف الليل، فما كان منه إلا أن أسلم أمر زوجته لله. وعندما عاد فوجئ أن زوجته قد ولدت بمساعدة القابلة، التي اعتقدوا أنه هو من جلبها قبل ذهابه إلى عمله، فما زال يغمر طفلته المولودة، التي طلبت القابلة أن يسموها "فاطمة"، بالدموع والقبل كلما اقترب منها، حتى أثار استغراب زوجته وأدركت أن في الأمر سراً جرى تلك الليلة، خصوصاً مع القابلة التي كانت غريبة الأطوار بوجهها النوراني و"يدها الخفيفة" حتى ولدت الطفلة بسهولة، ورفضت تناول الطعام أو البقاء. والغريب أن الشهيد "رحمه الله" لم يبح بالسرّ لزوجته حتى بعد سنوات من وفاة الطفلة "فاطمة". تضيف هذه الوريقات واقعاً ليس للحثّ على التدرّب على فنون القتال فحسب، بل للتدرب على فعل بناء الرجال الذين عرفوا الله فعرّفهم أنفسهم، فهانت عليهم الدنيا وأنفسهم في سبيل الله. بقي أن نقول إن هذا الكتاب الذي نوّه به السيد القائد بصدقه يستحق أن يُقرأ بوصفه نوعاً جديداً من سيرة الأدب المقاوم، أدب الشهادات النابضة في سير الشهداء الأحياء الذي يفترض أن ننبري جميعاً للكتابة عنهم ولو اضطررنا للابتعاد عن تقنيات الأدب الروائي واكتفينا بالسرد الذي يعرض للبطولات المجيدة في مواجهة أعداء الله من قبل رجال الله، فبهم تنتصر الأمة وبسيرتهم تحافظ على حياة الانتصار والعزة.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع