أشياء كثيرة نواجهها في حياتنا ليست مقدّسة إلا أنها تأخذ طابعاً مقدساً إذا ما
جاءت عن طريق العادات والتقاليد والموروثات التي ورثها الأبناء والأحفاد عن الآباء
والأجداد، وهذا التقديس يتحول إلى صنم كبير وحجاب غليظ يمنع الإنسان من استعمال
عقله وتشغيل فكره ظناً منه أن دوره يكمن في تلك المواقع في الانبهار والانسحاق،
وكأنه ممنوع عليه أن يناقش لئلا يُتّهم باتهامات هو في غنى عنها.
فالجاهلي الذي كان يدفن ابنته وهي حية والذي كان يتفنن في أساليب الوأد، حيث يصل الأمر به
أحياناً إلى أن يربي ابنته إلى أن تبلغ السادسة من العمر فيأمر زوجته بأن تلبسها
أفخر الثياب ليأخذها إلى الرحلة الأبدية، وهو حتماً ليس في وارد أخذها إلى مدينة
الملاهي مثلاً، أو إلى أي مكان جميل للتنزه، بل إلى قطعة تحت الأرض ليدفنها غير آبه
بكل أصواتها وكلماتها واستغاثاتها ليذهب إلى منزله لاستقبال المهنئين ظناً من
الجميع أنه دفن العار، وهو بذلك يُمثّل أعلى درجة في العار بسبب فعلته
﴿وإذا الموؤدة سُئلت، بأي ذنب قُتلت﴾،
هذا الجاهلي هو في قرارة نفسه مستاء من نفسه، ولعلّه تمنى أن يدفن نفسه بدل ابنته،
وهو أيضاً لا يغيب عن ذاكرته صورة طفلته البريئة وهي تصرخ، وهو حتماً له عواطفه
وأحاسيسه كأب ينظر إلى ولده كقطعة من كبده، لكن لماذا لم يتمرّد على هذا الواقع؟
والجواب باختصار هو التقديس الأعمى واوصم للعادات والموروثات.
والمشرك باللّه والعابد
للأصنام الذي يأبى المناقشة في عبادته مستسلماً لما ورثه عن الماضين ولاغياً فطرته
التي فطر اللّه عليها خلقه، هو من هذا القبيل الذي يرفض المسّ بمعتقداته ظناً منه
أنها الخير المطلق بينما الآخرون في ضلال مبين، والعاكف والمتمسك بالأفكار الواهية،
والمعتقد أن الذي فتح عليه عينيه من دين أو مذهب أو تقليد هو الأفضل على الإطلاق،
وهو بالتالي ينظر إلى كل شيء من مجتمعه فيراه الأحسن، وهو بدل أن يجعل الحق هو
الميزان، ينظر إلى مجتمعه على أنه المقياس، وإلى نفسه على أنها بوصلة تحدِّد
الاتجاهات وتصحِّح المسارات، وإذا ما واجهتَه بالحقيقة فاتحاً له قلبك ومشرعاً له
صدرك للحوار الهادئ قابلك قائلاً: إن العالم الفلاني كان على هذا الدين أو المذهب،
معاذ اللّه أن يخطئ في معتقداته، أو أن فلاناً "قدوتي" كان على هذا المعتقد وما
شابه. إنها الأفكار المكدَّسة وليست بمقدّسة أتت من حالات اللاشعور وسلبت من
أصحابها اللب والعقل والفهم، وإذا ما شئنا الاسترسال في هذا الموضوع الحيوي والخطير
في آنٍ، نسأل عن كثرة الأديان والطوائف والمذاهب والملل والنحل، فهل أراد اللّه لها
أن تكون كثيرة؟
معاذ اللّه أن يكون ذلك، بل إن المعتقد بهذا هو حتماً قد انشغل بمكدّساته عن
قداسة اللّه تعالى، وإلا فكيف يُعقل أن يجعل اللّه الناس متشرذمين مختلفين؟ مع
أننا نجزم أن الذين انسجموا مع أهوائهم ولم يطيعوا الأنبياء في كل ما قالوه، ولم
يُقدسوهم في كل شيء فعلوه، ولم يتمسكوا بحذافير كل ما أوصوا به وخصوصاً على مستوى
من سبق ومن يلحق من الأنبياءعليهم السلام، فإن النتيجة الحتمية ستكون مزيداً من
الأديان والمذاهب، مع أن العاقل اللبيب يدرك أن تواتر الأنبياء إنما كان لأجل إخضاع
البشرية إلى مراحل عديدة يتم من خلالها إنضاج الأمة لتصبح بمستوى الرسالة الخاتمة.
وهنا نسأل أيهما أولى أن يُقدس، المصلحة الإلهية الكبرى، أم التجمد عند حدود
معينة حتى لو كانت على مستوى نبي من أنبياء اللّه؟
وألا يرى القارئ الكريم أن تقديس الموروثات غالباً ما يكون على حساب قدسية الرب
الجليل؟.
وكما في الأديان، فالأمر ينسحب على المذاهب المتعددة التي لم يرد لها اللّه ورسوله أن تكون كذلك، إلا أن تقديس بعض الشخصيات وحفظ بعض الرموز يضرب بالصميم قداسة رسول اللّه وحكمته صلى الله عليه وآله وسلم بناء لما نسجته خيالات البعض، وهنا انتهز الفرصة لأثير بعض التساؤلات التي أبقاها بعض المسلمين مجهولة، لأسأل عن إصرار النبي المصطفى على واقعة غدير خم في حجة الوداع؟ وعن منزلة السيدة الزهراء عليها السلام وقبرها المجهول؟ وعن طريقة دفنها في الليل سراً؟ وعن إبعاد الأئمة عليهم السلام عن مواقعهم الريادية ليواجهوا القتل والسم؟...
عزيزي القارئ، وقبل أن تقلب ربما شفتيك وتأخذ المقالة التي بين يديك لتعرضها على فلان وفلان، مستنكراً ما جاء فيها، أسألك عن نفسك؟ وعن قناعاتك؟ وفطرتك؟ قبل أن أسألك عن مجتمعك الذي يقول أشياء وأشياء، إذ ليس كل ما يقوله هو الصحيح، وليس كل ما يلمع ذهباً، فإن وصلت إلى قناعة ذاتية فخذ مجلتك بقوة وانشر فكرها، وتعال نفتح قلوبنا على اللّه ليدلنا الحكيم الخبير على مقدّساته ومختصاته قبل أن نتيه في صحاري الجهل والتقديس الأعمى وأخواته.
إنها دعوة صادقة، أن تكفر
برواسبك قبل أن تؤمن لتستعذب حلاوة الإيمان الخالص، فتعال نزرع بذور الصلاح وشتل
الفلاح على أرض صالحة لا يشوبها شيء من المزروعات السامة والقاتلة، فهيا بنا نجرب
على أمل اللقاء في موعد آخر بمشيئة اللّه.. والسلام.