صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

حكايـة الشمس

الشيخ محمد باقر كجك


الشمس كانت في سماء مشهد، ولم تزلْ، تضحك في وجه الزوّار. في الليلة الماضية، اشتدّ الزحام أمام باب بيته، ففتح لهم الباب سيّدٌ هيبتهُ تجعل قلبكَ مثقلاً بالفرح والصمت. دخل الضيوف إلى غرفة ضيّقة، وجلسوا على أثاث إذا قلتَ عنه إنّه متواضع، فقد تكون بالغتَ قليلاً. كان والده عالم دين، ورعاً زاهداً، وكان قلبه مليئاً بنور الشمسِ. الشمسُ متواضعة، صحيحٌ أنها عالية، إلّا أنّها لا تتوقّف عن مدّنا بالدفء. وكان الأولاد ينتظرون رحيل الضيوف لكي يستفيدوا من هذه الحجرة. البيتُ كلّه حجرتان!

ولكن من هاتين الحجرتَين كانت شمسٌ من نوع آخر تكاد تشرق.

*في الثوب القديم
كانت مدينة مشهد تتنفَّسُ بصعوبة في ذلك الشتاء.. كانوا يسمّونه شتاء المساكين، لأنّ شتاء مشهد يتفنّن في إدخال الصقيع إلى العظام. فكيف إذاً بمن لا يكسو عظامَه إلّا اللحم العاري؟ وكان بيت السيّد بحجرتَيه، لا يقي أجساد الأطفال البرد، أجسادهم التي لا يسترها إلّا ثياباً خفيفةً لا تُسمن ولا تُغني من جوع.

وكان السيد "علي"، أحد اليافعين في ذلك البيت، مشغولاً بالذهاب من المنزل والإياب من حرم الإمام الرضا عليه السلام. يعني، بين منزل صغيرٍ مليءٍ بالناس المحبين، وبين حرمٍ لحبّ الله مليء بالمساكين. قالت له أمّه ذات يوم: "سيد علي! السعي بين المنزل والحرم، سيملأ جسدك بالصقيع وتمرض... خصوصاً أنّ ثيابك هذه لا تقيك البرد!". كانت ثيابه شيئاً عجيباً غريباً خاطته له أمّه من ثوب أبيه الذي استعمله لمدة أربعين عاماً.

كان الوالد يسمع، فعَلَت على وجهه ابتسامة محببةٌ جداً، وقال للأم: "اتركيه يذهب، هذه الثياب التي عليه تخفي شمساً كاملةً.. إنّها شمس طوس. الشمس لا تبردُ".

ضحك السيّد "علي"، وجلس أمام أبيه، ثم فتح كتاب (اللمعة الدمشقية)، وقال لوالده: "مبحث الطهارة، يخلو من مبحثِ أنّ دعاء الوالدين يطهّر القلبَ من ظلام الدنيا".

*الشمس في السجن
كانت ليلةً صعبةً. السجن معتم. يقولون عادة إنّ السجون تروّض الإنسان، ربما لأنّ الجدران الاسمنْتية، تتحوّل شيئاً فشيئاً من حدودٍ مكانيّة إلى حدودٍ نفسيّة، توقف انطلاق الإنسان. السّجن، ربما ينفع المجرمين، الذين يُطلقون وحوشهم في غابة الذات، فيأكلون بها الآخرين. لكن السيد "علي"! ماذا كان يفعل في السجن؟

في ذلك الوقت من سنة 1963 ميلادية، كان الشاه قد بالغَ في نشر وحوشه في ذلك السجن الكبير الذي كان يحكمه، بناسه وأرضه ونفطه، وكان يحارب فكرةَ أن هناك من يريد لحبّ الله تعالى أن يكون فعّالاً بين البشر. لا مشكلة في حبّ الله في غرفةٍ في منزلك.. في حديقة ما.. لكن أن يكون حبّك لله تعالى سبباً لقلعِ جذور تلك الشجرة التي تمنع الناس من رؤية نور الله، فهذا أمرٌ يوجب السجن. وكانت إيران قد أضحت سجناً واسعاً. وفي تلك الفترة، وقف السيد "علي" على منابر النور في إيران، ومن مدينة إلى مدينة، كان يدخل قلوب الناس، وكانت قلوبهم معتمةً من الخوف، متعطّشة للحب، ولم يكن يشفيها إلّا "نور الشمس".

ولكن الشاه طلب من وحوشه إحضار السيد "علي" إلى السجن. عذّبوه، أهانوه، حلقوا له لحيته، ثم جاء ضابطٌ مغرور ليسخر من لحيته، فضحك السيد وقال له: "لم أرَ لحيتي منذ فترة طويلة!". هكذا، وبكلّ بساطة وشجاعة، كان سجن "قزل قلعه" في سبيله للانهيار: هل يتحمّل أيّ سجن أن تُسجن فيه شمسٌ؟".

يقول السيد "علي": جدران السجن، لم تفلح في ترويض أيّ شيء في داخلي، إلّا أنها فعلت شيئاً واحداً حسناً، زادت لهفتي لرؤية الإمام الخميني!

هل يقضي السجن على ثورة الحب في القلوب؟ مستحيل.

*الشمس تشرق في الجبهة
في صبيحة ذلك اليوم، ركبت مجموعة صغيرة من الشباب في طائرة مروحيّةٍ مسرعة إلى الجبهة. لا يمكن أن تتأخّر أكثر من ذلك، الوقت بضاعة مهمة لا يمكن إتلافها. قال لهم السيد "علي": على الطائرة أن تصل في الوقت المحدد، أيّ تأخيرٍ من الممكن أن يسبّب سقوط شهداء.. هل تتحمّلون هذا الدم؟

وصلوا إلى الجبهة، نزلوا من الطائرة، هجم الشباب المجاهدون من كل ناحية، وخرجوا من الخنادق ومن خلف الدشم، وتحلّقوا حول السيّد "علي". في الحقيقة، الجبهة مكان ليس كباقي الأمكنة، الجبهة غربال، الجبهةُ مصفاة قاسية الأطراف، والمجاهد الحقيقيّ، في أوائل مكوثه في الجبهة يشعر بالحزن، والغربة، وصراع في القلب بين البقاء والرحيل، ويشتد عطشه إلى الوضوح: هل فعلاً هذا مكانه؟ هل قراره بالمجيء إلى الجبهة منطقيّ؟

المنطق، والعقل، والقلب، والجوارح، أعداءٌ متفرقة تقاتل بعضها بعضاً على رقعة الجبهة. وأحياناً يكون القتال مريراً، فترتفع سحبٌ من الأحزان، لا يعود المجاهد يرى فيها شيئاً.

عندما خرج السيد "علي" من خيمة القيادة، وجد شاباً يقوم بدوره في الحراسة. عيناه نصف مفتوحتين، تراقبان الثغور. قبّل السيد "علي" وجه الحارس، ثم أتى له بطعام، وأعطاه غطاءً لكي يقيه البرد. قال الشاب في نفسه: هذا السيّد ليس رئيس جمهورية وحسب.. إنّه شمسٌ تشرق في الجبهات. وقف الحارس على قدميه، قبّل جبين السيّد، وقال له: "الآن هدأت المعارك في قلبي. وبدأت ساعات النصر..!".

للشمسِ تلك، حكايات لا تنتهي. لا تكفيها الأوراق، ويرتبك عندها قلمٌ غارق في الظّلمة.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع