نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

قصة قصيرة: شيء يشبه البكاء

نسرين إدريس


عندما تشرقُ الشمس، تكتب صفحةً جديدة من صفحات الحياة، وتبعثُ أشعتها كنغمٍ يجعلُ من الآتي أكثر أملاً.. كان يقفُ على الشرفة متكئاً على عكازيه وخلفه حائط لم تزل الشظايا والرصاص المسماري موسومة عليه، والأعشاب البرية المتمردة على المكان، نبتت بين تشققات البلاد..

منذ زمن بعيد لم يقف هنا.. فمنزله ظلّ مهجوراً طوال فترة الاحتلال الإسرائيلي على الرغم من تواجده في المناطق المحررة، لكنّ المواقع الإسرائيلية المطلة عليه جعلت منه خراباً. عشرُ سنوات عاشها بعيداً عن بيته الذي يشكل بالنسبة إليه وطنه.. والجميل فيه أن بعض الطيور اتخذت من الثقوب الواسعة بيوتاً لتبني أعشاشاً لها تقيها قيظ الشتاء، إنه يسمعها الآن تغني بقدوم أيّار وتنفض عن ريشها مطر نيسان الأخير.. صار أيار فصلاً خامساً للسنة، فصلاً تخضوضر فيه الأماني وتغرّد الأطيار في عينيه الهاربتين من البحث عن باقي جسده على تلك البقعة.. هناك، حيث صار اليباس أكثر حياةً من أي شيء آخر.. إنه الآن في عمر الخامسة عشر.. ينظرُ إلى البساط الأخضر الملون بالأقحوان الأبيض والأصفر فتذكر أخته الصغرى كم كانت تحب أن تصنع من تلك الزهور عقداً وسواراً.. فخطر على باله النزول بهدوء والسير بتؤدة في تعرجات التلّ ليقطف باقات ملونة لها..

مشى وهو يغرس عكازيه في التراب الندي وآثار خطوةٍ واحدة من خطواته ترتسم خلفه.. كان يتمتم مقاطع من نشيد ثوري ليعلمها للطيور والشمس تلفه بأشعة هفيفة كوشاح من السحر.. جلس على الأديم ليبهر ناظريه بالطبيعة الخلابة فاستأنس بكل التفاصيل التي لا أحد يراها غيره.. سعيداً كان، لكنه لم يستطع إلا أن يجهش بالبكاء.. ثمّة أحزان تبقى أبداً، تتسرب إلى الضحكات الجميلة، تسدل ستائرها على نوافذ الأحلام، تنعق كغربان الوحدة في وحشة الطريق.. وحزنه مرآة يرى فيها نفسه، يرى جسده الذي بترت منه ساقه، فيقرأ غداً صعباً، وطفولة ضاعت مع ضياع قدمه..

لا زال يذكر ذاك اليوم، لا، بل يحسه، فآلامه ترتسم أمام عينيه، يمدّ أنامله ليتحسسها، وليضغط من جديد على جرحه.. كانت فرحة الانتصار والعودة أجمل من كل شيء.. حمل علم حزب الله الأصفر وركض مع الراكضين عبر المعابر وهم يكبرون، كان دخوله إلى المناطق المحتلة عبور إلى دنيا جديدة لم يرها، كان يسمع عنها فقط.. الورد والأرز والزغاريد وضجيج لا يمكن أن ينتهي صداه حتى ظهور الحجة عجل الله فرجه، وهو ورفاقه يركضون.. يتسابقون ليطؤون التراب الذي حرر بدماء الشهداء.. لم ينته ذاك النهار، كان طويلاً جداً بطول فرحة الناس بالانتصار.. مشى على جنبات الطريق ورمق الأودية والجبال والمواقع الفارغة.. "من هنا مرّ المجاهدون والشهداء"..

كثيراً ما حاول أن يرسم مشهداً من مشاهد الانتصار وهو في البيت بعد حادثة بتر قدمه، لكن في كل مرّة يبدأ ينتهي بلوحةٍ تعكس آلام البتر القابع عند نهاية نظراته.. مرت سنتان على تلك الحادثة، بعد عيد الانتصار بأسبوع، عاد مع أهله إلى منزلهم، واستولى الفضول على عقول الفتية باكتشاف الأمكنة.. "خطر.. ألغام" لافتات زرعها مجاهدو المقاومة الذين دأبوا مع قيادة الجيش اللبناني على تفكيك مستنقعات الألغام التي خلفها الاحتلال الإسرائيلي، فكان ورفاقه يحذرون الاقتراب من المواقع المهجورة، ومن الأماكن المشبوهة..

لكن هنا، في هذه البقعة بالذات، زرع شيئاً من جسده؛ خلف المنزل الذي طالما حلم بالعودة إليه، كان يمشي وأخته ليقطف لها بعض الأقحوان وشقائق النعمان، رآها كالفراشة تنتقل من وردة إلى أخرى، تنشر عبير الفرح في الأرجاء وفي كل لحظة ترفع ستار الشمس عن أهدابها الناعستين، وكيفما دارت طار الخيط الرفيع المشكوك ببعض الورود.. وبينما هي تنتقلُ داستُ على شيء ما جعل قدمها تهوي داخل الأرض.. ركض إليها لينقذها فوقعت قدمه في الحفرة التي قدفته بعيداً عنها انفجر اللغم الأرضي.. بُترت قدمه.. واستشهدت أخته في منطقة لا يخطرُ على بال أحد أن تكون مزروعة بالألغام.. حمل باقة ملونة من الأقحوان وشقائق النعمان، وتوجه نحو مقبرة القرية ليجلس عند قبرها، وخلفه خطوة واحدة إلى جانبها وردة.. كأن الورود خشيت أن تصل فذرفت نفسها على الطريق كشيءٍ يشبهُ البكاء..

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع