سمير قاسم
بطاقة الهوية
الاسم: علي حسين أبو دلة
اسم الأم: ندا عليق
محل وتاريخ الولادة: يحمر 10-6-1966
الوضع العائلي: متأهل (بعد الاعتقال وله ولدان)
رقم السجل: 65 يحمر
تاريخ الاعتقال: 16-4-1988
تاريخ الإفراج: 21-07-1996
مكان الاعتقال: معتقل الخيام
كنهرٍ رقراقٍ هادىءٍ ينساب ماؤه بكل ثقةٍ وطمأنينة، يتناغم خريره مع حفيف الشجر وزقزقاتٍ هنا وهناك، لا يداخله الضجر ولا تساوره الهموم، حراً طليقاً واثقاً مهاباً، مستأنساً في قرارته غير مستوحشٍ... أشبه بتسبيح عابد. هذا هو علي أبو دلة بطبيعته وفطرته وطول أناته...
* في ربوع الطهر
استلهم من قريته الوادعة بين حنايا الليطاني القابعة على سفح جبل الشقيف المتفيئة بظلال أشجارها طباعه ومزاجه. ومن عبق إقحوانها الفواح أستنشق أريج الطهر الخالص. تزين عليّ بمزاياها، حبا وترعرع ونشأ بين ربوعها مكتسباً من هدوئها الأناة، ومن بيئتها الزراعية الكادحة شظف العيش، ومن وعورة مسالكها الصبر والعناد ومن نهرها الرونق والذوق والإبداع... دخل مدرستها منهياً المرحلة الابتدائية لتبدأ الحرب اللبنانية وما تبعها من اعتداءات صهيونية ألحقتْ بالناس وممتلكاتهم الموت والدمار والتهجير من الديار. تهجّرت عائلته إلى المدينة وبقي علي مع أهله هناك حتى الاجتياح الصهيوني عام 1982 وكان قد أنهى المرحلة المتوسطة فعاد إلى يحمر والتحق بمهنية النبطية ميكانيك عام .
* في مسيرة الجهاد
عايش علي الاحتلال الصهيوني وهو في مقتبل العمر وشاهد ووعى جرائمه وغطرسته الكالحة، وشعر بكل جوارحه بأن الاحتلال القابع على صدر أمته يجب أن يزول. وكان العام 1983 وكان صدى المقاومة للاحتلال قد دوّى في أرجاء قرانا. وبدأت تشكيلات الخلايا السرية الجهادية بلونها الإسلامي الحسيني المحض، كان علي دائم التردد إلى المسجد قاصداً جبشيت للإستزادة من خطب وتوجيهات شيخ الشهداء الشيخ راغب حرب. تعشعش الإيمان في قلبه وبدا في مسلكه مثلما تعشعش الإيمان ببندقيته ولازم اندفاعه لدحر عدوه إيمانٌ خالص متشبع منطلقاً في مسيرته الجهادية. وهكذا انطلق مع خليته يكيلون للعدو الصفعة تلو الأخرى... لتأتي معها وبعد تقهقر العدو من بيروت مرحلة تهريب الأسلحة الأكثر فتكاً ورعباً، ليدك بها أوكار الغزاة الغاصبين. أنهى علي المرحلة المهنية لكنه وبمضض لم يُكتب له متابعة دراسته الجامعية، وحينما أوصدت أبواب العلم أمامه فكّر بمهنةٍ يعتاش منها ولا تقيده عن عمله العسكري بل تكون وسيلة لهذا العمل وليس أفضل في هكذا ظرف من التجارة فبحجة نقل البضائع يقوم بنقل الأسلحة... والمجاهدين... وهكذا كان.
* مهمة واعتقال
إنه السادس عشر من نيسان عام 1988 وكان نهار سبت. لم ينم علي ليلته لصداع في رأسه ولم يغادر حجرته كعادته بل افترش سجادة الصلاة وراح يتلو ويسبح ولسانه يلهج بالأسحار... صلى الفجر والصبح واستلقى ليغفو في سبات عميق... كانت الساعة الثامنة صباحاً عندما طُرق باب حجرته لم ينتبه لتوّه، لكنه سرعان ما استيقظ... رسول من شباب المقاومة يطلب منه التوجه الفوري إلى مدينة النبطية لأمور عسكرية هامة... كانت المهمة نقل أسلحة على وجه العجل إلى ناحية الليطاني لجهة قلعة الشقيف. وصل إلى بركة أرنون لينعطف جنوباً حيث المهمة. وعلى حين غرَّة تفاجأ برتل آلياتٍ تحاصر ذاك المكان وتحتجز عدداً من المارة وسائقي السيارات وتستجوبهم كلاً على حِدة. لم يرتبك علي بهذا المكمن المباغت. بل استعاذ باللَّه من الشيطان الرجيم وسلّم أمره للمولى. لم يعد أمامه سوى خيارين لا ثالث لهما. إما أن يطلق النار في عمل استشهادي محتوم ولطالما حلم بها ودعا ربه أن يرزقه الشهادة... ولكن ما ذنب هذه الجموع البريئة التي احتجزها العدو والموت سيطالها حتماً. وإما أن يحاول العودة من حيث أتى... لكن العدو بكمينه المحكم كان قد نشر سفاحيه ومرتزقته من أمامه ومن خلفه... وصدى الرصاص يزعق من فوقه... وينهقون عبر المكبرات أنْ ابتعد عن سيارتك خلال ثوانٍ وإلا سنعمل على تدميرها... يا للكارثة لو دُمرتْ السيارة المثقلة بالعبوات والذخائر. لا شك فإن عشرات المدنيين سيستضيفهم الردى ظلماً مع استبعاد الأذى الشديد للعدو.
* الصابر المتأمل
اقتيد مقيداً معصب الرأس والعينين ولكمات البغي تنهال عليه من كل حدب وصوب عبر ملالةٍ إلى قلعة الشقيف وبعدها إلى مرجعيون ليصل أخيراً إلى معتقل الخيام. حاول علي أن ينكر كل شيء... أن لا يهمس بحرفٍ واحد عن تفاصيل مهمته وحاول جلادوه أن يستنطقوه بكل تفانين التعذيب... وباءت كل محاولاتهم بالفشل. أنكر أنه على علم بوجود الأسلحة في سيارته زاعماً أنه طالبٌ لا يعرف سوى القرطاس والقلم... تجاهل وتجاهل... حارتْ أساليب جلاديه الفظيعة في أمره. لا السياط ولا عامود الكهرباء ولا الجلد المبرح أثمر في إرغامه على التفوّه ولا أساليب الرعب في الزنازين الإنفرادية المظلمة وحرمانه من الطعام والماء، ولا عملاء الزنازين الذين استكلبوا في مكرهم وحقارتهم ودناءة شأنهم... وهكذا استمر الوضع على مدى أسابيع حتى يئس الجلادون من جدوى استجوابه ونفدت كل أساليبهم الوحشية. حتى وضعه في زنزانة مظلمة ولمدة طويلة. نتيجةً لشدة التعذيب الوحشي الذي تعرض له علي وبسبب الظروف اللاصحية في المعتقل أصيب بعدة عوارض ما زالت آثارها شواهد حتى اليوم. لكنه ظل الصابر المتوكل المتأمل... لم يعتوره اليأس أو الإحباط بل إنكب على حفظ القرآن غيباً والحِكم المأثورة مع ولعه الجامح بالشعر. لم تكن الكتب متوفرة أو مسموحاً بها بعد، والتعلّم كان يحصل إما مشافهةً أو بالكتابة على قطعة قماش سوداء بواسطة صابونةٍ بيضاء، حتى إذا امتلأت القماشة وجب محوها بالماء لتُعاد الكتابة عليها مرةً تلو مرة... تابع علي مواقفة الجريئة داخل المعتقل وخاصة المطلبية منها مع الحفاظ على هدوئه ورزانته وكان صاحب نكتة وطرافة، ذا باعٍ طويل في الصبر والتكيّف.
كان يجالس زملاءه يحادثهم عن الماضي الجميل وصوره تتراقص أمامه كأنه يحسها... يعيش معها... يحاكيها بكل تفاصيلها. ولا ينام إلا بعد صلاة الفجر ليستيقظ عند الظهر وبعدها يتفرّغ لإدارة زنزانته والمطالعة وأحياناً يمتشق قلماً ليدون ما يتهافت منه على شكل خواطر.
وكما كان يعتقد أن الفرج آتٍ لا محالة وبهمة المجاهدين... تحقق أمله ذات يوم وبتاريخ 1996-7-21 أفرج عن علي مع عشرات من المعتقلين معظمهم من القدامى الذين أمضوا أكثر من عشر سنوات في ظلمة السجون بتبادل كبير مع العدو يشمل جنديين صهاينة وبضعة عملاء لحديين كانوا في قبضة المقاومة بعدما أُسِروا في عملياتها النوعية المباركة. تحرر علي من المعتقل ولظى النار في قلبه يستعر لعدم تمكنه من الذهاب إلى قريته التي أحبها وأحب من فيها ولتركه إخوة له ما زالوا تحت سياط جلاّديهم ولم يشعر علي بنعمة الإفراج كاملةً إلا في الثالث والعشرين من أيار عام 2000 حيث كان العناق الطويل والعرس الأكبر.