نسرين إدريس
بطاقة الهوية:
الاسم: رسيل أحمد رحال
اسم الأم: حسنة الصعيدي
محل وتاريخ الولادة: برج البراجنة 1-6-1970
الوضع العائلي: عازب
رقم السجل: 74
مكان وتاريخ الاستشهاد: بحر عدلون صور 11-2-1987
هناك في الأفق البعيد، في عميق البحر المالح، بقايا من نثرات جسده، تعطّر الريح، تحضن الشمس، ليتنفسَ الموج بذكرياته ويعيد: سيبقى ولدي حياً ما دام الزبدُ دفة السفر، ما دام الحلمُ صارية الرجوع سيبقى رسيل ابن البحر رباناً لسفن الخلود...
تقول والدته أنها رأت في منامها، لما كان جنينها يقطنُ رحمها المتعب من قسوة الحياة، أناساً يحملونه طفلاً جميل الوجه، ويمدونه إليها وهم ينادون باسمه "رسيل"، وقد أسمته بذات الاسم على ندرته، وهو يعني في اللغة العربية قطرات المياه العذبة المنسابة من أعالي الجبال، ولا شك في أن الصورة الأولى التي ترتسمُ في ذهن المرء حين معرفته لمعنى الاسم، طبيعة استشهاده في عمقُ البحر، فهو رسيلٌ انحدر حتى أعماق اليم، وبقي قطرة حلوة في ملح أجاج؛ "مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخٌ لا يبغيان"... في منطقة الأوزاعي، وعلى شاطئها الشاهد ولادة أجيالٍ نحتوا تاريخهم على صخوره، ترعرع، وكان البحرٌ أمَّه وأباه وصديقهُ، بين أمواجه العاتية اشتد عظمه، وعلى نعومة رماله الساخنة نبتت بين مفاصل نفسه ورود الصفاء والهدوء... أجل، لقد كان ضجيجه وأحاديثه التي لا تنتهي تخبىء في طياته هدوءً ساحراً يطرح ألف سؤال وسؤال... من هو ذاك الفتى الذي كَبُر قبل أوانه؟ وأي سر يحمل...
أصيب رسيل في طفولته بمرض الرمد في عينيه فصبر على الألم وتحمّل الحرمان من ضوء الشمس لأيام عديدة، إلى أن اصطحبه أهله إلى طبيب قرر أن يعالجه بإبرةٍ في العين، ولم يصدق الطبيب نفسه عندما طلب من شابين أن يمسكا برسيل، أن ذاك الطفل الصغير يفتح بكل جرأة ولوحده عينه، ويطلب إليه أن يغرز الإبرة بشجاعةٍ نادرة دون الحاجة لأن يساعده أحد!!!
كانت الشجاعة الصفة البارزة فيه، وهو الذي لم يقضِ طفولةً كغيره، فقد كبر قبل أوانه؛ تدرب على السلاح وهو في العاشرة من عمره، ولُقّب ب"فتوة" الحارة لكثرة المشاكل التي افتعلها مع أبناء جيله بل الأكبر منه سناً، ولم يكن يكترث لشيء طالما أن الحق معه، وفي مقابل ذلك، حافظ على رفعة أخلاقه ونبلها، ورقة مشاعره التي كانت تبرز في مواقف تجعله يبدو فعلاً كطفلٍ صغير...
وإذا كان رسيل قد تعلَّم الصلاة وبعض الأحكام الشرعية منذ صغره في منزل والديه، فإنه انتمى إلى الحياة الحقيقية في زوايا بيوت الأوزاعي التي ضمَّت الشهداء، سمير مطوط وعاصي زين الدين وجعفر المولى والعديد من الأسماء التي وهبت الوطن أرقى التضحيات... وقد رأى الفتى الذي لم يبلغ العاشرة اخطبوط الحرب كيف مدّ حباله ليبتلع الأمان في كل مكان، فتعلَّم من الرجال الذين أبوا السكوت حديثاً من نوعٍ آخر، مزخرفاً بالرصاص، وأي رصاص؛ رصاص الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع...
في حزيران 1982 اجتاحت القوات الإسرائيلية الأراضي اللبنانية، وعند مثلث خلدة ذاقت المرارة الأولى لهزائم تكررت على أيدي رجال المقاومة الإسلامية، وإذا كان الشبان والرجال تصدوا بكل بسالة وقدَّموا أرواحهم في تلك الملحمة، فإن رسيل في عمره الثاني عشر حمل السلاح وقاتل جنباً إلى جنبٍ معهم، وعاد إلى منزل ذويه يحمل سلاحاً أطول منه، وعلى جبهته عصبة "سيدي أبا عبد اللَّه"... بدأت الرحلة الحسينية، ومسيرة العشق التواق لنيل إحدى الحُسنيين، والمقاومة تنتقل من قرية إلى أخرى، ومن زقاقٍ لآخر، ورفاق الدرب يحملون على الأكف شهيداً بعد شهيد، والتصميم في تزايد مستمر، فلم يكن هناك في حياة رسيل أهم من المقاومة، بل القول الحق إن المقاومة كانت حياته... من الأوزاعي إلى الجنوب، بين عمليات عسكرية ونقل أسلحة وعتاد، شق دروب الخطر بقلبه المطمئن وبشجاعته مضربِ المثال وبعزمه الوثاب...
ولم يقتصر عمله على الواجب العسكري، بل سعى لتأمين المساعدات للمستضعفين ليل نهار، ولم يحتج المرء معه للطلب، فهو كمطر الرحمة يهطل على أرض اليباب لتخضوضر وتربو... وكانت "القدس" الحلم الذي راود قلبه وسلبه لبّه، وكيف تغيب القدس عن باله وقد انقضت أيامه وهو يسمع ويعي قضية فلسطين، ولكن الجهاد الذي اختاره "أبو حسن" حسبما أطلق على نفسه بعد تعلقه الشديد بجارهم سماحة السيد حسن نصر اللَّه الذي كان يكن له رسيل حباً جماً؛ لم يكن وليد لحظة استثارت فيه الحمية الوطنية، أو دفاعاً عن حق مسلوب فحسب، لا، لقد دفعه إيمانه وعشقه للَّه لاختيار هذا الطريق، لقد أراد أن يهب نفسه للَّه، بأرقى صورها، وليس ثمة مستوى في العشق أعلى من مرتبة القتل في سبيل اللَّه، لهذا قرر رسيل الشهادة...
ولن يوفق للشهادة إلا من أتى اللَّه بقلب سليم، فطهر روحه من أدران الدنيا، وحلَّقت نفسه في الملكوت الأعلى، وخاط ثيابه من خيوط تعاليم رفاقه الشهداء، ليبقى معهم في حبل متصل، وفي شوقٍ ملتهب... خضع رسيل للعديد من الدورات، ونال وساماً في لعبة التكواندو، وكان يغيب أياماً عن المنزل لا أحد يعرف فيها إلى أين يذهب، وقد طلب إلى والدته ألا تسأل يوماً عنه إذا غاب إلا حين تتجاوز فترة غيابه العشرة أيام... وكانت تلك الليلة من ليالي شباط العاتية، البرقُ والرعد كانا عزفاً لساعات مُظلمةٍ، ورجال ينتظرون أولى خيوط الفجرِ لمعانقة أمواجٍ مرعبة، عبروها دون خوف، والمطرُ يرسلُ زخاته لتلسعهم بصقيعها، ولكنهم لم يَهِنُوا ولم يحزنوا، فالبحر رفيقهم، حضنهم شاطئُه صغاراً، وعانقتهم أمواجه كباراً، وانتظروا قرب صخوره الأيام ليحين الموعد؛ موعد لقاء اللَّه...
في الحادي عشر من كانون الثاني من عام 1987، وبعد أن غاب رسيل عشرة أيام عن المنزل، قامت مجموعة من المقاومة الإسلامية بأولى عملياتها البحرية قُبالة شاطئ عدلون صور حيث استهدفت المجموعة زورقين ألحقت بهما أضراراً جسيمة، وقد اعترف العدو حينها بمقتل جندي وجرح العديد منهم... هناك في الأفق البعيد، نثروا أجسادهم زبداً فوق أمواج لن تنساهم، ذهبوا ولم يعودوا غير أن لهم في زوايا القلوب شموع ذكريات لا يطفئها زمان ولا يُذيبها اشتعال... وحدها نوارس الأفق تُعطِّر مناقيرها برائحة دمائهم الزاكية المنبعثة من الأعماق، وتحملُ ملامح وجوههم على أجنحتها المسافرة في البعيد... هناك في الأفق البعيد، حيث غفا رسيل اغفاءته الأخيرة في رحم البحر، كأنه عاد إلى الأصداف لؤلؤة تبهر الأرواح، عاد للمرجان، ليبقى رسيل بسمة حلوة فوق شفاه زمن مالح من كثرة الدموع...
السلام عليك أيها الشاب مذ كنت طفلاً، السلام عليك أيها الرجلُ في زمنٍ عزَّ فيه الرجال، طوبى للأرض التي عليها مشيتَ... طوبى للأمواج التي اكتنفت جسدك، فإنها احتضنت بطلاً لا يتكرر مرتين...