نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

مناجاة الذاكرين(8): اذكروني أذكركم

آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي (حفظه الله)


لقد مرّ معنا سابقاً خلال شرح مناجاة الذاكرين للإمام السجّاد عليه السلام أنّ ذكر الله هو أعلى اللذائذ، وأنّ الإنسان عندما يدرك عمق هذه اللذّة، يستغفر الله من الاشتغال باللذائذ الدنيويّة الزائلة ويتّجه بقلبه إلى الله تعالى. من جهة أخرى، فإنّ الذكر يتأتّى من جهتين؛ إذ كما إنّنا نذكر الله سبحانه، فهو تعالى أيضاً ذاكرٌ لنا غير غافل عنّا وعن أحوالنا. فعندما نعلم أنّ خالقنا وإلهنا المنّان ذاكرٌ لنا، ولا يغفل عنّا لحظةً، ويفيض علينا من رحمته وبركاته، تحصل لنا لذّةٌ مضاعفة.


* مسيرة الذاكر في المناجاة
والواضح أن نجوى الإمام السجاد عليه السلام في مناجاة الذاكرين، ذات ترتيب منطقيّ جميل، تبيّن حالات الذاكر لله أثناء مسيرة ذكره له:

أ- فإذا كان الذاكر من أصحاب الأدب والمعرفة، يخجل من ذكر الله؛ لأنّه يعتبر أن قلبه ولسانه لا يليقان بذكره تعالى. لذلك يتحدّث بداية، في مقام الاعتذار من الله تعالى: "إلَهِي لَوْلا الْوَاجِبُ مِنْ قَبُولِ أمْرِكَ لَنَزَّهْتُكَ مِنْ ذِكْرِي إيَّاكَ".

ب- ثمّ إنّ الذاكر لله إذا لم يحصل له التوفيق الإلهيّ، لا يتمكّن من الذّكر ولا يتّجه قلبه إلى الله، لذلك يقول الإمام عليه السلام: "إلَهِي فَألْهِمْنَا ذِكْرَكَ فِي الْخَلاء وَالْمَلاء".

ج- وفي المقطع الثالث يشير الإمام عليه السلام إلى أنّ حصول القلب على الهدوء والسكينة لا يكون إلّا من خلال ذكر الله تعالى "فَلَا تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ إلَّا بِذِكْرَاكَ".

د- وعندما يصل الإنسان إلى لذّة ذكر الله ويدرك أنّ تلك اللذة أفضل وأعلى من أيّ لذة أخرى، يرى لزاماً عليه، عندئذٍ، الاستغفار، لأنّه قضى عمره في التلذّذ بالنعم الدنيويّة المحدودة، ولأنّه كان غافلاً عن لذة ذكر الله اللامتناهية. من هنا نرى الإمام عليه السلام يقول: "وَأسْتَغْفِرُكَ مِنْ كُلِّ لَذَّةٍ بِغَيْرِ ذِكْرِكَ".

هـ- ثمّ يقول الإمام عليه السلام في نهاية المناجاة: "إلَهِي أنْتَ قُلْتَ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا(1)، وَقُلْتَ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ(2) فَأمَرْتَنَا بِذِكْرِكَ وَوَعَدْتَنَا عَلَيْهِ أنْ تَذْكُرَنَا، تَشْرِيفاً لَنَا وَتَفْخِيماً وَإعْظَاماً، وَهَا نَحْنُ ذَاكِرُوكَ كَمَا أمَرْتَنَا، فَأنْجِزْ لَنَا مَا وَعَدْتَنَا، يَا ذَاكِرَ الذَّاكِرِينَ، وَيَا أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ"(3).

*في الذكر اطمئنان وسكينة القلب
عندما يحتاج الإنسان إلى شيء، فإنّه يسعى للوصول إليه؛ فعندما يشعر الجائع بالحاجة إلى الطعام والعطشان بالحاجة إلى الماء، فإنّه يتحرّك لرفع حاجته. ولا يحتاج إلى من يوصيه ويطلب منه أو يأمره برفع حاجته. ومع أنّ ذكر الله تعالى هو أعلى وأرفع احتياجات الإنسان، ومع أنّه سبب فلاح الإنسان وصلاحه وسعادته، ومع أنّ كلّ شخص يدرك ذلك، إلّا أنّه لا يقوم بذلك إلّا بتوفيق من الله، حيث ينبغي للإنسان شكر الله على هذا التوفيق. وقد أمرنا الله تعالى في كتابه مراراً أن نذكره، وفي ذلك تشجيع منه تعالى وحثٌّ لنا على ذكره. ثم إنّ الله تعالى ولأجل تقوية دافع العبد نحو ذكره قد وَعَد بأنّنا إذا ذكرناه فإنّه سيذكرنا. وهذا بحدّ ذاته شرف وفخر كبير للإنسان.

*اذكروا الله تفلحوا...
إنّ إدراك كون ذكر الله يؤدّي إلى اطمئنان وسكينة القلب وأنّه يخرج الإنسان من الاضطراب، هو أمر يحرّكنا نحو اختباره. ويبيّن الله تعالى أنّ ذكره يؤدّي إلى الفلاح والصلاح، يقول: ﴿وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (الأنفال: 45). وبما أنّ السعادة والصلاح أمران مطلوبان لنا بمقتضى فطرتنا، فليس من الصعب عندها إدراك وتحصيل هذا الوعد الإلهيّ. أمّا إدراك نتيجة ذكر الله لنا عندما نذكره فهو أمر صعب، إذ لا نعرف كيف يذكُرنا الله تعالى ولا نعلم معنى ذكر الله لنا. إنّ هذا المطلب هو من الأمور المعنويّة الأعلى من الأمور الحسيّة. وإدراك هذا القبيل من الأمور المعنوية يدفعنا للمقارنة والتشبيه بالأمور المحسوسة ليحصل لنا شيء يسير من الفهم والمعرفة بذلك، ولنتمكّن من الإحاطة بمفهوم وقيمة ذكر الله عبدَه.

*مفهوم ذكر الله لنا
من الصعب علينا إدراك مفهوم الآية الشريفة: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ (البقرة: 152). ولكن عند التأمّل والمقارنة بين ذكر الله لنا، وذكر الأصدقاء والأقارب وسائر الأشخاص لنا، يمكننا إدراك مفهوم ذكر الله لنا ونتيجته وفائدته. فمن الصعب جدّاً على الإنسان أن يتحمّل الغربة وأن لا يكون له شخص يذكره. وفي المقابل إذا علم الإنسان أنّ الآخرين ملتفتون إليه وذاكرون له سيشعر بالنشاط والسرور.

إنّ جميع الأشخاص الذين يتعلّق بهم الإنسان ويرغب في أن يذكروه، هم مخلوقات ضعيفة، ناقصة، محدودة، فقيرة ومحتاجة بكامل وجودها إلى الله. وأمّا الكمالات التي تحملها هذه المخلوقات فهي قليلة إذا ما قيست بالكمال الذي أعطاه الله تعالى لأوليائه، وهي كلّها لا شيء أمام الكمال الإلهيّ اللامتناهي.

وممّا لا شكّ فيه أنّ قيمة ذكر هذه الموجودات المحدودة صاحبة الكمالات المتناهية لا تصل إلى قيمة ذكر الله اللامتناهي، صاحب الكمال المطلق؛ فمحبة الله وحنانِه لا حدّ لهما، ومهما قصّر الإنسان وعصى ونسي الله، فالله هو الرؤوف الرحيم بعبْده المذنب، لذلك لا ينساه على الإطلاق، بل هو يدعوه باستمرار إليه. ومع أنّ تعداد ذنوبنا كبير جداً، إلا أنّ الله تعالى، رغم ذلك، لا يتركنا وشأننا، بل يريد منّا التوبة حتى ولو كنّا على مشارف الموت.

* حاجة المقرّبين أكبر
إنّ كافّة المخلوقات محتاجة إلى الله تعالى ولا يوجد شخص ليس بحاجة إليه ولو للحظة واحدة. وفي هذا الإطار، فالذين يمتلكون سعة وجوديّة أكبر، كانت حاجتهم إلى الله أكبر من حاجة الآخرين إليه. ومن هنا، فالأنبياء والأوصياء والأئمّة والملائكة المقرّبون هم أكثر حاجة إلى الله تعالى منّا. كما لا يمكن المقارنة بين سَعَتهم الوجودية وسعتنا نحن، ولا يمكن مقارنة فقرهم وحاجتهم إلى الله بحاجتنا نحن. إنّ أنبياء الله وأولياءه محتاجون إلى الله تعالى في تأمين متطلّباتهم وفي تعاليهم وكمالهم الوجوديّ، لأنّهم يفيضون طريق السعادة والكمال والتعالي على الآخرين أيضاً. إذاً، الموجودات بأكملها محتاجة إلى الله والله وحده هو الغنيّ المطلق الذي لا يحتاج إلى غيره.

*يا بن آدم اذكرني.. أذكرك

الله تعالى، وخلافاً للتصوّرات الباطلة، لم يخلق الموجودات ومنها الإنسان ليأنس بها؛ وذلك لعدم حاجته إليها على الإطلاق، وكما يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "ولم يكوّنها [الدنيا] لتشديد سلطان ولا لخوف من زوال ونقصان ولا للاستعانة بها على ندٍّ مكاثر ولا للاحتراز بها من ضدّ مثاور ولا للازدياد بها في ملكه، ولا لمكاثرة شريك في شركةٍ، ولا لوحشةٍ كانت منه فأراد أن يستأنس إليها"(4).

هل هناك من فخر وشرف للعبد الحقير الغارق في المعاصي أكبر من أن يذكره الله وهو صاحب الكمالات اللامتناهية، والذي تحتاج إليه كافة المخلوقات وهو لا يحتاج لأحد وهو صاحب المحبّة والرأفة غير المتناهيتين؟! إذا علمنا أنّ السيد القائد دام ظله أو المرجع الفلانيّ ذكرنا في مجلس، فإنّنا نطير من الفرح، بل ونخبر الآخرين بذلك ونحن في غاية الفرح والغرور، لأنّ شخصية عظيمة ذكرتنا. لو ذهبنا بعيداً عن ذلك وعلمنا أنّ الإمام وليّ العصر (أرواحنا فداه) قد ذكرنا، فما هي الحال التي ستعترينا؟ من الطبيعيّ أن يكون فرحنا عظيماً بهذا الفخر الكبير. وعليه هل من فخر وكرامة وشرف للإنسان أكبر من أن يذكره الله تعالى الذي تعود كافة الفضائل إليه وهو صاحب الكمالات اللامتناهية؟ والله تعالى يقول: "يا بن آدم اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي؛ يا بن آدم اذكرني في خلأ أذكرك في خلأ؛ يا بن آدم اذكرني في ملأ أذكرك في ملأ خيرٍ من ملئك"(5).


1- الأحزاب: 41–42.
2- البقرة: 152.
3- مفاتيح الجنان، الشيخ عباس القمي، ص128.
4- نهج البلاغة، الخطبة 186.
5- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج7، ص159.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع