نسرين إدريس
"لن تنحني هامات علاّها المجدُّ والدّم":
* إبراهيم موسى صبرا حداثا 25 / 10 / 1966، علي سعيد شعبان بيت ياحون 5 / 2 / 1965،
علي أحمد زعرور الشرقية 2 / 12 / 1963، عقيل مسلم أيوب بنت جبيل 1 / 9 / 1966، فضل
اللَّه داود إبراهيم عيناتا 7 / 10 / 1968، أحمد علي شعيب الشرقية 1 / 6 / 1962،
حسن محمد الكبش صيدا 20 / 4 / 1968، ياسر علي كوراني ياطر 1 / 1 /1966، كمال حاتم
ناصر الدين الهرمل 20 / 7 / 1964، ناجي فوزي أبو دية الكرك 1 / 8 / 1963، أسد
اللَّه مرشد شمص بوداي 5 / 5 / 1965، سامي حسن ملدان علي النهري 1 / 9 / 1956، علي
عباس العوطة حوش حالا 10 / 12 / 1957، حسين علي عودة الخضر 16 / 1 / 1970، حسن علي
مظلوم بريتال 1 / 2 / 1969، حيدر صالح مظلوم بريتال 2 / 7 / 1968، توفيق علي حيصون
كفردان 20 / 2 / 1968.* تاريخ الاستشهاد 18/ 4 / 1987
تشظى الندى برودةً بين أنامل تعانق بهدوء زناد البنادق...
وذاب صقيعُ الفجر بلهيب الشوق الجارف للقاء اللَّه... وضوء البدر يتمايل بين الغيوم
الراكضة كمسافر بلا رجوع، وهي تفرد ألوانها الرمادية لشمسٍ ستشرقُ بعد حين... كانت
عيونهم تحدِّقُ بالجنود الصهاينة باستهزاء، والأسلاك الشائكة والألغام تفصل بينهم،
كحدٍّ بين الحق والباطل؛ رجالٌ صدقوا ما عاهدوا اللَّه عليه... وما بدّلوا تبديلاً...
في الخامس عشر من شعبان لعام 1407هـ، وفي ليلٍ مطبقٍ على أسرار عاشقين تلتاعُ
نفوسهم لذكر حبيب غائب: "ليت شعري أين استقرت بك النوى..."، فما استطاعوا إلا مُضياً
إلى حيث يرغبون، فالشوق حارقٌ والانتظار مرير، وساروا في طريقِ اليقين، وكتبوا على
كل حبة تراب... على كل ذرة ريح: يا مهدي أدركنا... الخيار واضح، والبسالة في أوجها،
والهدف: كونوا حسينيين خمينيين... فأرادوا أن يكونوا كذلك، فكانوا... هناك، لم يكن
الزمان زماناً عادياً، ففي تلك الحقبة الشاهدة على تخاذل الأمة العربية، وقبولها
للجرثومة السرطانية "إسرائيل" كحلٍّ لصراع وجود، لن ينتهي إلا بإبادة المحتل... ولم
يكن المكان أيضاً مكاناً عادياً، فقد اختارت المقاومة الإسلامية أولاً موقعاً
صهيونياً علمان الذي يتمركز فيه أكثر من أربعين جندياً إسرائيلياً، وهو محاط
بالسواتر الترابية العالية جداً والتي تمنع رؤيته من الداخل، ومحميٌ بدبابة ميركافا
إضافة إلى خطٍ من الألغام والأسلاك الشائكة...
وثانياً، موقع الشومرية الذي يقع
شمال غرب موقع علمان ويخدم فيه حوالي خمسة عشر عميلاً، ويعتبر هذا الموقع خط الدفاع
الأول لعلمان ووجوده كان بالأساس لهذه الغاية، ذلك أن منح الكيان الإسرائيلي جيش
العميل لحد مهمة حمايتها في الجنوب المحتل وتحديداً فيما أسموه بالحزام الأمني،
ضعضع هيبتها العسكرية والأمنية بعد ضربات موجعة من المقاومة الإسلامية صرّح بها أحد
جنرالات العدو عندما أعلن: "إن حزب اللَّه يضعنا أمام خيارين كلاهما مر؛ إما
الانسحاب من منطقة الحزام وإما العودة إليه..." فآثر رئيس الوزراء الصهيوني آنذاك
إسحاق رابين اتخاذ القرار الثاني في 31 آذار 1987 والعودة إلى "الحزام الأمني" عقب
انهيار جيش لحد أمام ضربات المقاومين... فكانت معركة غير متكافئة على جميع الصعد؛
الجيش الإسرائيلي واللحدي بأسلحة متطورة، ومجموعة من المجاهدين بأسلحةٍ خفيفة
ومتوسطة... غير أن المفارقة الأساس كانت: أنها معركة بين خائفين محتلين وعاشقين
حُسينيين انطلقوا من عرين "ألا إن الموت لنا عادة وكرامتنا من اللَّه الشهادة"،
وانقسموا إلى مجموعتين؛ الأولى انطلقت إلى موقع علمان، والأخرى إلى موقع الشومرية،
والقلوب يمَّمت عشقها للَّه وحده...
أولئك المجاهدون، الذين انطلقوا في منتصف الليل ليؤكدوا للعالم إصرارهم على استرجاع
وطنهم حراً عزيزاً، بعد أن ساعدوا بعضهم البعض على ارتداء الجعب وحمل السلاح،
وواحداً تلو الأخر مهروا بشفاههم على القرآن الكريم عهد مواصلة الطريق وعبروا من
تحته لتبقى كلمة اللَّه هي العليا... وصلوا إلى موقع علمان، وكان الجنود الصهاينة
يهيئون أنفسهم لإطلاق قذائف ورشقات رشاشة عشوائية باتجاه المسالك المؤدية إلى
الموقع خوفاً من تسلل المقاومين قبل دخولهم إلى الموقع، فيما كان المقاومون يسمعون
حديثهم وهم ينتظرون الأوامر بالهجوم، وعلى الرغم من البرد القارس، فإن أحد
المجاهدين غفا ونام نوماً عميقاً وهو يحمل بندقيته في لحظة اطمئنان تتقاذفها الحياة
والموت... وحان موعد النزال، في الثالثة صباحاً وبصرخات "اللَّه أكبر" "يا زهراء"
إقتحم المجاهدون الموقع ورشاشاتهم تضرب في كل اتجاه وقذائفهم الصاروخية تقصف الدشم
والتحصينات، وبعد ربع ساعة من بدء الهجوم، انجلى غبار الرصاص بسيطرة كاملة على
الموقع...
وفي موازاة ذلك، وفي نفس اللحظات، كان رفاق الدرب المرابطون على موقع
الشومرية قد اقتحموه وسيطروا عليه، لتلاقي صرخات التكبير في السماء نصراً مؤزراً،
بعد قتل عشرة جنود صهاينة وجرح آخرين وتدمير دبابة ميركافا وإعطاب دبابتين أخريين
وملالة، إضافة إلى نسف عددٍ من الدشم في موقع علمان، وقُتِل أربعة عملاءٍ لحديين
عدا الجرحى وتدمير ملالة وإحراق جيب عسكري في الشومرية، وقد جُرِح مقاومان تم سحبهم
خارج منطقة المعركة في الوقت الذي كانت فيه القذائف المسمارية والثقيلة تتساقط على
الموقعين من مرابض العدو في المنطقة المحتلة والطيران المروحي يمشِّط المنطقة بشكل
كثيف... أدّت هذه العملية إلى نشر الرعب في صفوف الجنود الصهاينة ما اضطر رئيس
الأركان موشي ليفي وقائد المنطقة الشمالية آنذاك يوسي بيليد إلى الأشراف مباشرةً
على سير المعارك وقيادة التصدي للمقاومين، وقد حاولت إسرائيل ومن خلال بياناتها حول
المواجهة أن تؤكد أن الهجوم استهدف موقع الشومرية التابع للميليشيات وأن الجيش
الإسرائيلي قد تدخل للمساعدة لا غير...
"إنّ حزب اللَّه يقاتلون بشكل جيد" هذا ما قاله أحد الجنود الإسرائيليين متحدثاً عن
عمليات المقاومة الإسلامية، فيما أردف آخر: "إنّ حزب اللَّه لديه مخيلة حية في
القتال"... انتهت المهمة، وكانت طريق الرجوع، قلوبهم المنتشية بفرحة النصر تطير
كعصافير تواقة إلى الحرية فتلامسها بين جرحٍ وحبة دم... كانوا يعودون كرجوع سنونو
أيلول عند مداهمة الدفء أبواب العمر... كانوا يعودون ولحن النصر نشيجٌ من حنين...
غير أنهم، عند بوابة العبور وجدوا الغدر بالمرصاد؛ وصار الموت من أمامهم ومن ورائهم
وفوق رؤوسهم، لكن النصر بقي مُلك أيديهم، فهم صانعوه، وهم خلّدوه بدمائهم... سبعة
عشر شهيداً شبكوا أيديهم بعضها ببعض، وعلّوا رؤوسهم صوب السماء، وبقيت رؤوسهم شامخة
ولا تزال فلن تنحني هاماتٌ علاّها المجد والدّم... ولن تنثني عزائمٌ كربلاء
دُستورها والحسين معلّمها...
تشظى الدم برودةً بين أناملٍ تعانق بهدوء زناد البنادق...
وذاب صقيعُ الحياة الدنيا عند لقاء اللَّه... وضوء البدر يتمايل بين أرواح راكضة
كمسافر بلا رجوع، تفرد عشقها لشمسٍ أشرقت عزاً ونصراً من نجيعهم الذي كتب: اللهم
إني أجدد له في صبيحة يومي هذا وما عشتُ من أيامي عهداً وعقداً وبيعة له في عنقي لا
أحول عنها ولا أزول أبداً...