نسرين إدريس قازان
لم يعد ينقص سوى البلاط وبعض الأمور الثانويّة ويكون
البيت جاهزاً.. عندها سيعقد قرانه على ابنة عمّه التي تنتظره منذ سنة ونصف. قبل أن
يلتحق بالجبهة أعطى محمّد أمّه مبلغاً من المال وطلب إليها الذهاب وابنة عمّه
لانتقاء البلاط المناسب للمنزل، وأخبرها أنه قد اتّفق مع صاحب المعمل على كلّ شيء.
*على أحرّ من الجمر
امتلأ قلبها بالغبطة، فما كانت تنتظره طوال عمرها صار قريباً جدّاً، وسترى ابنها
عريساً كما تمنّت.
غادر محمّد؛ وتحيّرت هي بالتحضيرات، فتراها حيناً تشتري له ثياباً وحيناً آخر تبحثُ
عمّا يعجبها لمنزل ولدها، وهي تنتظرُ عودته على أحرّ من الجمر.
حان وقت عودته.. لكنها كانت عودة من نوع آخر.
تحيّر الأقارب كيف ينقلون إليها خبر استشهاد محمّد وهم يعلمون أنّ قلبها ينبضُ
باسمه، وروحها تعيش بين أنفاسه، واتّفقوا فيما بينهم على أن يطلبوا سيّارة الإسعاف
احتياطاً لما قد يحلّ بها.
ولكنّ شيئاً لم يحدث. كانت تنظر إليهم ودموعها تنهمر بصمتٍ على وجنَتيها، ثم قالت
لهم: لقد رأيتُ صباح هذا اليوم الإمام الحسين عليه السلام في الرؤيا، وكان يقف بين
الأرض والسماء حاملاً كأساً، فسألتُ لمن هذه الكأس؟ فأخبرني الناس إنّها لشهيد لا
نعرف من هو.. فقلتُ: هنيئاً له. وليصبّر ? قلب أمه.
نكَستْ رأسها وقالت: إنّه محمّد!
*صبرُها كان عظيماً
لم يحتاجوا إلى سيارة إسعاف كما ظنّوا، فما أودعه الله في قلبها من صبرٍ كان عظيماً..
ولكنّها طلبت إليهم طلباً فقالت: "أحضِروا محمّداً في نعشه إلى البيت قبل دفنه،
لأني أريد أن أزفّه عريساً".
كان الليلُ بنجومه السارحة في السماء يمرُّ على قلبها ببطء. خرجت إلى الحديقة وقطفت
من شجرة الغاردينيا كلّ الأطباق، وذلك لتهيّئ صينية الورد والأرزّ. كانت رائحة
الغاردينيا تدغدغ أنفاسها الساخنة، ونسيم الليل يلفح وجنَتيها المبلَّلتين بالدموع.
أشرقت الشمس على وجه الأمّ المنتظرة والتي لم يغمض لها جفن. وقفت عند النافذة لتنظر
إلى الزقاق الضيّق، وإذا بها ترى شجرة الغاردينيا وقد امتلأت أغصانها بورود جديدة،
ما أثار استغرابها! وكأنّ الشجرة تريدُ أن تشاركها في زفّ عريسها.
بقيت عند النافذة ترمق الزقاق، حتّى إذا ما تناهى إلى سمعها صوت سيارة الإسعاف،
لملَمت مشاعرها المبعثرة في زوايا الذكريات، ووقفت بين النساء قائلة: "من تريد
الخروج معي لاستقبال محمّد عليها أن لا تبكي وأن لا ترفع صوتاً أمام الرجال".
*امتزجت دموعها بدمائه
خرجت إلى الزقاق الضيّق، وفي خيالها يلوح محمّد طفلاً يركضُ وصوت ضحكاته ترنّ في
الأرجاء.. تذكّرته يضع رأسه في حضنها باكياً من وقعةٍ آلمته، فتمسح دموعه وتوسعه
تقبيلاً.. تذكّرته وقد صار فتى يتحيّن فرصة انشغالها لينسلّ من المنزل ويلتحق
بالرفاق في لعبهم.. تذكّرته شاباً، يعود من عمله منهكاً فتحيّرت كيف تخفّف عن كفّيه
التعب.. تذكَّرته.. وتذكَّرته.. وآهٍ من حبل الذكريات حينما يرمينا في بئر الزمن
العميقة.
وصلت إلى السيّارة، ومشت خلف النعش حتّى وضعوه في المنزل، كشَفتْ عن وجهه، قبّلته
القبلة الأخيرة، وامتزجت دموعها بدمائه، وما إنْ رفعوا النعش، حتّى جاءت بصينية
الأرزّ والورد ومشت خلفه تزفّه وتزغرد له، فقد انتظرت طويلاً أن تزفّه عريساً، وها
قد زفّته إلى مثواه الأخير.
(*) قصّة والدة الشهيد المجاهد محمد خضر برجكلي، مواليد معروب 19/11/1990م، استشهد أثناء دفاعه عن المقدّسات في تاريخ 20/5/2013م