نسرين إدريس
الاسم: خضر علي إبراهيم
اسم الأم: نسيمة بركات
محل وتاريخ الولادة:
القنطرة 13 / 9 / 1968
الوضع العائلي: متأهل وله ولدان
رقم السجل: 1143
مكان وتاريخ الاستشهاد:
بلاط 23 / 5 / 2000
عندما أطبق القفلُ بفكيه على الباب الحديدي لمحل "خضر
الحلاق" في بئر العبد، هبّت ريحُ وحشته في القلوب، فأيبست الحياة في النفوس، وتشققت
الأيام من فرط قحط الفرح؛ نحن أمة ما رأينا السعادة إلا من خلف نقاب الحزن، وما
لمسناها إلا عند قطرة دمٍ وحبة تراب... هو ذا محل "خضر" مقفل وللمرة الأولى دون
تكليف من عمله التطوعي في حزب اللَّه..
مقفلٌ بانتظار صاحبه كي يأتي ويمسح عنه غبار
الجمود وليعطيه بعضاً من حياته، ويأنس لأحاديثه وحكاياه لرواده، يستقبل الزبائن
الذين ربطتهم به علاقة أخوية قوية ببشاشة وجهه المتنكر للعبوس... لا أظنُ أن بلاط
القبر في روضة الشهيدين يستطيع أن يُغيِّب للحظة بسمة "خضر"، ولا للقفلِ الصدىء أن
يَمُد نسيانه على طيفه المتنقل بحماسة متميزة... خضر الولد المدلل لعائلةٍ رأت
السعادة من بين جنبيه، الصغير الذي انتظروه بشوقٍ بعد أن رأت والدته في حلمها وهي
حامل به أن رجلاً أهداها كبشاً وأخبرها أنها ستنجبُ صبياً وستسميه خضر... لكن عين
القدر المتربصةِ بالأيام، اختطفت منه والده وله من العمر ثلاثة أشهرٍ إثر حادث سيرٍ،
غير أن والدته وإخوته أخذوا عهداً أن يكون كل فرد منهم والداً له، وكلما مرت الأيام،
سألهم خضر: متى سيعود والدي من السفر؟!
لم تستطع أمه أن تقول له أن والده توفي،
كانت تخشى عليه من الأسى والحزن، وتخبره أنه غداً سيأتي، وراح يعد الأيام على
أصابعه الصغيرة، وعلى مفكرة دروسه والغد الذي سيحمل والده من البلاد البعيدة لن
يأتي... لطالما سأل نفسه؛ ألم يهفُ قلبه يوماً لرؤيتي؟ فلم يحمل صمت صورة والده
جواباً يشفي أنينه، ولم ترحم الأيام في نفسه انتظاراً يحرقه، إلى أن أخبره رفيقه
يوماً أن والده مات وهو طفل رضيع، ركض ليختبىء في حضن أمه من الحقيقة، لكنها عندما
هدّأت من روعه واخبرته أنه يتيم الأب، فانزوى في نفس الزاوية المقابلة لصورة والده،
ولكن ليس ليعاتبه، بل ليترحم عليه...
عاش خضر متنقلاً من مكانٍ إلى آخر بعد أن بدأت الحرب اللبنانية، إلى أن استقرت
العائلة في الشياح، وهناك قضى طفولته الزاخرة بالأشياء الجميلة، فهو تارةً يعود
مع مغيب الشمس وحمرتها تلفحُ وجهه المتعب من لعب كرة القدم، وتارة أخرى يلعب مع
رفاقه بالأسلحة الخشبية لعبة الحرب... وشعر بنفسه فجأة بعد أن وقفَ موقف المتفرج
أمام مشاهد الحرب الضروس، أن في داخل جسده الطفل شاباً يتململ ليحمل السلاح ويدافع
عن أرضه... أولى مشاركاته كانت في عرض يوم القدس، فكان يتحججُ بلعب كرة القدم
ليشارك في التدريبات، وكانت تلك الخطوة الأولى له في طريق جهاد حزب اللَّه... عندما
بلغ الثالثة عشر قرر أن يترك المدرسة ويعمل ليعين والدته التي أنهكها العمل، فبدأ
بمهنة الحلاقة التي فتحت أمامه أبواباً واسعةً من التعارف الاجتماعي الذي صقل
شخصيته وجعله مقرباً ومحبباً من جميع الناس الذين ظنوا أن خضر الشاب المتزن لا شأن
له بالسياسة والحروب، يقضي وقته بين العمل والمسجد وملعب كرة القدم، وإن أحداً لم
يعرف أنه المجاهد الصامت المتنقل بخفة ليخدم مسيرة حزب اللَّه؛ فكان الجندي المجهول،
الذي نزف أوجاعاً وتحمل أحزاناً وشرب من كأس الظلم بنفس مطمئنة، فإن طبيعة عمله
الأمني حتّمت عليه تحمل الكثير، إلى أن خرج من الشياح التي تربى فيها، وعرفه فيها
كبيرها وصغيرها بنبل أخلاقه وطهارة روحه، مصلوباً بالاتهامات، ملاحقاً بحجارة الحقد،
لكنه عالي الرأس بقي ومُذ عانقت أنامله زناد البندقية تراقصت الرصاصات فرحة وهو
يصوبها نحو الظلم...
لقد شهد لبنان الكثير من الحروب الداخلية والمناحرات، ولكن عيون المجاهدين لم تغفل
عن مقارعة العدو الأوحد (الجيش الإسرائيلي وعملاء لحد)، فبين الضاحية والجنوب طريق
عرفت حق المعرفة من لأجلها هجر الأهل والأصحاب، واختار الثغور والوعر ليقنُص من
هناك رضا اللَّه... وبدأ خضر يهيىء نفسه ليكون جندياً فاعلاً في صفوف المقاومة
الإسلامية، فالتحق بالدورات العسكرية والتخصصية، إلى جانب متابعته للدورات الثقافية
التي تقوي الروحية الإيمانية وتغذيها فتصبح الروح متوازنة تعطي للجسد دفعاً للمثول
أمام الموت في سوح الجهاد بنفس هادئة وروح مطمئنة... تزوج خضر ورُزق بطفلين غمرهما
حباً وحناناً وعطفاً، وكلما ناداه أحدهما "بابا" شعر أنه ملك الدنيا، وفي عام 1992
أوقف عمله التفرغي بعد أن جهّز محل حلاقة في بئر العبد، وحول عمله إلى تطوع في حزب
اللَّه، إلا أن شيئاً لم يتغير في أدائه لتكليفه، وعُيّن في حرس سماحة الأمين العام
لما يحمل في نفسه من خصالٍ حميدة، ومن سرِّية وصمت اشتهر بهما، فبقي جاهزاً لأي طلبٍ
يُطلب منه، وفي أي لحظة يقفل محله الذي هو باب رزقه ليلتحق بالمكان المطلوب. في
عمله كان "عباس" يسقي أرواح رفاقه بتعاطيه المحبب للجميع، ويخفف من أحزانهم بنكاته
الحاضرة دائماً، وببسمته الدائمة، في أصعب الأوقات كان خضر قنديلاً للأمل، زرع
أصدقاءه في مساحة تفهمه همومهم، ولجأوا إلى حلوله في مسائلهم الصعبة... كان
داعيةً بغير لسانه، حتى الذين حاربوه ووقفوا ضده بقوا على حبهم واحترامهم له...
حوّل محله في بئر العبد إلى ملتقى بين المعارف والأصحاب، وصار "خضر الحلاق" صديقاً
مقرباً من الجميع، فسلاسة حديثه تكسر كل الحدود في قلب الآخر، ليتسلل إلى داخله
ببسمته المشرقة دوماً... بعد استشهاد الشهيدين القائدين حسين مهدي محمد علي (الحاج
كربلا) والشهيد جلال رمال في عملية نوعية على طريق كوكبا حاصبيا، وعند عودته من
المشاركة في مراسم العزاء مع سماحة الأمين العام بدأت مشاعر غريبة تراود زوجته التي
كلما نظرت إليه أحست أنها لن تراه... كانت تلك الأيام مترافقة مع قرار العدو
الإسرائيلي بالانسحاب من لبنان في تموز، لكن المفاجأة كانت في 21 أيار عندما دخل
مجاهدو المقاومة الإسلامية إلى جانب الأهالي الأوفياء إلى بلدته القنطرة من قرية
الغندورية فحرروها، وكانت أول قرية تطؤها أقدام الشرفاء وتاقت نفسه عندما سمع الخبر
أن يذهب ليلامس تراب قبر أبيه، ولكنه لم يفعل، ترى هل كان يعلم أنه على موعد قريب
معه؟!
عرف خضر أن مجموعة من المجاهدين ستتوجه للقيام بمهمة جهادية خاصة تواكب مرحلة
الانتصار، وفقد صوابه عندما عرف أن اسمه غير مدرج، فصار يترجّى مسؤوله أن يدرج اسمه
ضمن القائمة، حتى وافق الأخير له، والتحق خضر إبراهيم بالمجموعة التي توجهت إلى
موقع بلاط في 23 أيار حيث قام الطيران الحربي الإسرائيلي بقصف الموقع بعد أن اقتحمه
المجاهدون بكل بسالة ودارت اشتباكات عنيفة مع حامية الموقع من اليهود...
استشهد خضر إبراهيم، وقد نال حقاً ما يستحقه... لو تدري يا "خضر" كم الناس بكوك، كم
من الذين اعتادوا ارتياد محلك خانتهم أقدامهم بالذهاب إلى غيرك... لو تدري يا "خضر"
مساحة الفراغ الشاسعة التي استولت على قلوبنا في رحيلك، فالأفئدة أجدبت، والأفراح
نضبت، وسماء الروح اكفهرت بالقهر والدمع؛ فإنا للَّه وإنا إليه راجعون.