مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

أمراء الجنة: الشهيدة المجاهدة نجاة فوزي أحمد


نسرين إدريس‏


الاسم: نجاة فوزي أحمد
اسم الأم:
ذيبة السرغاني‏
محل وتاريخ الولادة:
حوش الأمراء 7 / 7 / 1963
الوضع العائلي:
عزباء
رقم السجل:
9
مكان وتاريخ الاستشهاد:
الصنائع 27 / 7 / 1986


يعود وجهها مع الذكريات، يقلّب فينا المواجع، وتنتشي الدموع بفخرٍ عندما يُلفظ اسمها كأنه صلاة بين متاريس الحرب.. كانت نجاةً للذين عاشوا بالقرب منها، تعلمهم بسلوكها، وتبحر بهم بحديثها لترسو قلوبهم في ميناء الطمأنينة.. كانت شمعةً تنير الزوايا المظلمة، بإخلاصها وإيثارها، بحبها للآخرين الذي لم يحدّه حدّ، وكيف له أن ينتهي، وحبها كان فقط للَّه.. فتاةٌ بعباءتها السوداء، وهدوئها الرنان ووقارها اللافت.. بحركتها الدؤوبة المتزنة، تنتقلُ بين بيتٍ مستضعفٍ إلى منزل شهيد، ومن مركز الكشافة إلى مركز العمل الاجتماعي، دون كللٍ أو ملل، واضعة نصب عينيها هدفاً واحداً؛ الشهادة في سبيل اللَّه..

لم تنشأ نجاة في بيتٍ له توجهاته السياسية، وعقيدته الراسخة، بل في منزل بسيط جداً تقبعُ فيه الحاجة، ويسدلُ الفقر ستارته على بابهم المغلق بعزة النفس، وإيمانٍ تقليدي يقتصر على الخوف من الله والصلاة والصيام.. وكانت هي الابنة الرابعة بين أحد عشر ولداً، كان على والدها أن يتحمل مسؤولية معيشتهم.. لم ترغب نجاة أن تبقى طفلة تتغنى الناسُ بضفائرها، فنزلت عن أرجوحة اللعب باكراً، ولم تأخذها مراهقةٌ، أو مرآةٌ تتفقدُ فيها محاسنها، بل كانت تنظر إلى إخوتها، تتحمل مسؤوليتهم، تتمنى أن تحمل كل الهمّ عن أمها، وأن تؤازر والدها.. عندما تنظر أمها إليها تشعرُ وكأن شيئاً ما سلخ من قلبها، ربما لأنها كانت الأقرب لها منذ صغرها، أو لأنها كيفما تلفتت وجدتها بالقرب منها تساعدها، وتسمع ما يجول في خاطرها، وتخفف عنها بكلماتها.. لقد تعلمت نجاة من شظف الحياة كيفية المواجهة والتحمل، واتخذت من إيمانها درعاً لها، ومن صلاتها ودعائها سلاحاً يوصلها إلى الحقّ عزّ وجلّ..

لم تؤدِّ نجاة صلاتها وصيامها منذ صغرها كطقوسٍ متكررة، بل كان لها مع كل فريضة عبادةٌ جديدة.. وجاءت الحرب لتقتلعهم من منزلهم الذي يأويهم، ويشردهم من مكانٍ إلى آخر، بعد أن أصبحوا تحت رحمة البحث عن مكان آمن، فانتقلوا بين البقاع والجنوب، إلى أن استقروا في منطقة وادي أبو جميل في بيروت.. المكان الذي شهد على جهاد نجاة وتعبها..

منع الهربُ إبان الحرب نجاة من إكمال دراستها الأكاديمية، وسدّ الفقر نافذة التفكير بأي شي‏ء خلا العمل من أجل إعالة عائلتها، فتعلمت الخياطة لتصبحَ فيما بعدُ مهنتها، لكنّ الحيز الأكبر من وقتها كانت تقضيه في العمل الاجتماعي مع مجموعة من الإخوة والأخوات الملتزمين، فكانوا يؤمِّنون المساعدات العينية والمالية، ويتفقَّدون المحتاجين، ويخفِّفون من آلام المعذَّبين؛ وباختصار، كانوا مجموعة تشكل صورة حقيقية للإنسان المحمدي الأصيل..
عام 1982، واثر انهزام الجيش الإسرائيلي عند مثلث خلدة من اجتياح بيروت، وإعلان قيام مسيرة حزب اللَّه، طرأ تحول كبير في الساحة اللبنانية، خصوصاً مع إثبات مجموعة صغيرة من المجاهدين المضحين قدرتهم على إنزال هزيمة نكراء بالجيش الذي لا يقهر، وقد أصبحت مسؤوليتهم بمسيرة تحرير الوطن كبيرة جداً، فكان لا بدّ من تحصين الساحة الداخلية لهم للانطلاق بحكمة وطمأنينة إلى المحاور المتقدمة، وكانت نجاة ضمن المجموعات التي بدأت تبث في المجتمع العقيدة المحمدية الخمينية، فتناقش الأفكار دون خوف أو وجل، وتشارك في الحلقات الثقافية، وإن كانت نجاة لم تكمل دراستها الأكاديمية، فإن ذلك لا ينفي ثقافتها الواسعة وحسّها الاجتماعي الذي جعلها تتربع في قلوب كل من عرفها، أصدقاء وحتى أعداء الخط الذي تؤمن به، فكانت سمعتها الطيبة تطرق المسامع، خصوصاً وأنها عملت كمتطوعة في كل المجالات؛ العسكرية في وقتٍ ما، والاجتماعية، والكشفية، وأخيراً متطوعة في مؤسسة الشهيد، وإلى جانب تحمّلها لمسؤولية عائلتها تحملت مسؤولية أولاد شقيقتها الذين فقدوا والدهم في الحرب، فوقفت نجاة إلى جانب أختها وساعدتها في تأمين عمل لها، وفي تأمين احتياجات أولادها.. وقد استطاعت نجاة تحويل عائلتها من أسرة مؤمنة تقليدية، إلى أسرة التزامها وإيمانها ينضحُ بالفكر الخميني ليصبَّ في النهج الحسيني..

كانت نجاة، عندما تعود من عملها تخيط للفقراء والمحتاجين دون مقابل، وتخيط الثياب العسكرية للمجاهدين والثياب الكشفية لجمعية كشافة المهدي أيضاً دون مقابل، وإذا لم تكن خلف ماكينتها، فإنها حتماً تقوم بجولتها على بيوت الشهداء، أو المستضعفين.. أما السهرات فتقضيها بعقد حلقات دينية لدعوة الناس.. أو تساعد والدتها في عمل المنزل، فلم ترضَ يوماً أن ترتاحَ عند عودتها من العمل إذا ما وجدت أمها تعمل في المنزل، فكانت تخفف عنها، وتحادثها، حتى كأنها هي والدتها وليست بابنتها.. ولم تكن تحتفظ بشي‏ء لنفسها، بل كل شي‏ء تعطيه لغيرها حتى وإن كانت هي بأمس الحاجة إليه كانت تؤثر الآخر على نفسها، وقد ادخرت من مصروفها الخاص أموالاً لتؤدي والدتها فريضة الحج، ثم زيارة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام.. وكما في المنزل كانت الابنة البارة والواعية، أيضاً في الكشافة وفي العمل النسائي، احتلت نجاة مكانة عند زميلاتها جعلتهن يقتدين بها، ويخبرنها بأحوالهن، ويستشرنها بأمورهن، فكانت حكيمة الرأي، تتقن كلامها، وتبتعد عن الانفعال والشخصانية، لتكون بكلها مخلصة لعملها.. وقد سخّرت الوقت الكبير للكشافة، فكانت عميدة فوج لا يقل عدد عناصره عن السبعين فتاةً من أعمار مختلفة، عمدت نجاة وبمساعدة القائدات إلى بذر الإيمان والطيبة في نفوسهن، ولم تتجرأ يوماً على انتقاد أي شخص، بل كانت تلفت النظر بطريقة غير مباشرة حتى لا تجرح شعور أحد.. لم يكن خلف هذه الشخصية الديناميكية في النهار، سوى شخصيةٍ أكثر ديناميكية في الليل، فهي عندما تهدأ العيون، وتسكن النفوس تقفُ بثوبها الأبيض على سجادة الصلاة، وتسافر في أدعيتها إلى اللَّه، تمسكُ بحبله، وتسأله أن لا يستبدلها بغيرها، وأن يرزقها الشهادة ليطهر دمها القاني ما جنته نفسها على نفسها..

في كثير من الأحيان كانت أمها تعترض عليها كثرة خروجها من المنزل، على الرغم من معرفتها وجهة ابنتها، خوفاً عليها من ألسنة الناس، خصوصاً وأنها دفعت ضريبة غالية الثمن لالتحاقها بمسيرة حزب اللَّه، إذ كان من المعيب أن تنتسب فتاة إلى الأحزاب، ثم كان ارتداؤها للعباءة تصريحاً واضحاً عن عمق إيمانها وتدينها، وقد عكست بأخلاقها العالية ونبل تعاطيها مع الآخرين صورة المرأة المجاهدة في حزب اللَّه، غير أن ردها المؤدب لوالدتها كان دوماً: "وحدي اللَّه".. كانت نجاة تعملُ بصمتٍ، وتحاول جهدها المحافظة على سرية كل عمل تقوم به، وإن كانت علاقتها الاجتماعية واسعة جداً ومعارفها كثراً، فإن خصوصيةً ما كانت تحيط بها، شي‏ء من الغموض الذي يكشفُ عنه نقاب هدوئها الملفت، فبقيت محتفظةً لنفسها بشخصية بعيدة عن الضجيج الذي تعيش به، شخصية تتقربُ بها بصمت إلى الله..

لقد سرق العمل من نجاة التفكير بحياتها الخاصة التي استبعدتها كلّياً، فصار العمل كل حياتها، وكلما طلبت إليها والدتها أن تفكر ملياً بالزواج، بعد أن كثر الحديث عن رفضها لعدة شبان، تخبرها أنه وبمجرد أن تصادف شخصاً يساعدها على الارتقاء أكثر بتدينها سوف تقبل به، فهي كانت تبحث عمن تتعلم منه وتقتدي به.. لكن ثوب العرسِ الذي حلمت أن ترى والدة نجاة ابنتها فيه، بقي حلماً على أشفار عيون مشتاقة.. فذاك السبتُ من شهر تموز عام 1986، كان يوماً مشهوداً.. القذائف كانت تتساقط من كل حدبٍ وصوب، والشهداء والجرحى بالعشرات.. كانت نجاة في المنزل، صلت وجلست مع إخوتها وأولاد أختها.. ثم قامت للتوجه إلى مركز الكشافة لتتابع عملها..

اطمئنان غريب كان يبسط ظلاله على بسمة نجاة التي لم تأفل يوماً حتى عندما تذرف الدموع، ربما لأنها كانت تشعر بأن نهاية حياتها ستكون كما تمنت، وأن اللَّه سيستجيب لها دعاءها بنيلها للشهادة في يوم من الأيام.. والملفت أن نجاة كانت تحتاط بارتداء ثوب شرعي تحت عباءتها حتى في الصيف، وكلما استفسرت أمها عن ذلك، أخبرتها أنها تخشى أن تستشهد على الطريق، فتحتاط بلباسها ليبقى جسدها مستوراً.. أصرت أختها الصغرى أن ترافقها، فأخذتها معها.. وجلست نجاة خلف ماكينة الخياطة والإبرة تحيك بإتقان زوايا القماش، وهي تدمدم دعاءً تعودت شفاهها عليه.. وفجأة سقطت قذيفة بالقرب من المركز، سارعت نجاة لتتفقد أختها، فما إن فتحت الباب لتخرج حتى تطايرت الشظايا لتمزق صدرها، ولترميها على الطريق.. كانت روحها تفارق الحياة ويداها تمسكان بحجابها جيداً وهي تتلفظ شهادة الموت..

سقطت نجاة فوزي أحمد شهيدةً كما تمنت وهي في الثالثة والعشرين من عمرها، بعد سنوات طويلة من الجهاد السري والعلني، وكانت صورة مشرقة للمرأة التي لم تقبع في البيت، بل كانت إلى جانب الرجل المجاهد جنباً إلى جنب، تؤازره، وتجاهد معه، كما السيدة زينب عليها السلام في كربلاء..

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع