حوار: محمد ناصر الدين
ورد في النصوص أن ثلث القرآن الكريم عبارة عن قصة قرآنية
بما يحوي من قصص الأنبياء والرسل وغيرهم تتناول الأهداف التفصيلية للقرآن، ومن هنا
يمكن اعتبار القصة من أهم الموضوعات القرآنية التي تحتاج إلى اهتمام خاص وعناية
متميزة ولا بد من تناولها. والبحث عن خصائص وأغراض القصة القرآنية وأسرار قصص
الأنبياء من اختلاف في العرض وتكرار البعض الآخر وعدم ذكر القرآن لكل قصص الأنبياء
وغيرها من التساؤلات كانت محور الحديث مع سماحة الشيخ الدكتور محسن الحيدري صاحب
عدة مؤلفات قرآنية. تفسيرية والذي التقيناه في بيروت أثناء زيارته إلى لبنان نطرح
عليه هذه التساؤلات لنتوقف عند محطات حول القصص القرآنية:
* ما هو المراد من القصة ولماذا سميّت القصّة قصّة؟
القصّة أو القصص هي الحكاية عن حادثة واقعيّة أو خياليّة وأصل الكلمة من مادة "قَصَّ"
بمعنى طلب وفتّش فقد ورد في قصة موسى عليه السلام أن أمَّه "قالت لأخته قُصِّيهِ"
أي اطلبيه وفتّشي عنه ويقال لأخذ الثأر من القاتل "قِصاص" لأن صاحب الدّم يطلب بذلك
حقّه من القاتل وأُطلق على حكايات الأقوام السالفة قصّة لأنّ القاص في حالة التفتيش
عن أحوالهم وما جرى عليهم في حياتهم. وهناك وجه آخر لتسمية القصّة وهو أنها مشتقة
من القصّ بمعنى المتابعة والتوالي وحيث أن المطالب والحوادث فيها يتلو بعضها الآخر
يقال لها قصّة. ويقال للقصاص قصاص لأنه عقوبة تتلو الجريمة وبهذا الوجه أُطلقت كلمة
المقصّ على الآلة التي تقصّ الأشياء كالشعر وغيره بالتوالي والتتابع،
* ما هو سبب عناية القرآن بالأسلوب القصصي؟ ما هي أهداف
القصّة القرآنية؟
في الواقع إن ثلث القرآن على ما هو معروف يحتوي على قصص للأنبياء وغيرهم ولعلّ سبب
هذه العناية الفائقة هو أن القرآن ليس كتاباً فلسفيّاً بحتاً أو علميّاً يخاطب فئة
خاصة وإنما هو كتاب هداية وتربية وتعليم لكافة الناس من العوام والخواص لقوله
تعالى:
﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ
لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا
﴾ (الفرقان: 1). و﴿إِنْ
هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ
﴾(الأنعام: 90) و﴿هُوَ
الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ
وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾
(الجمعة: 2) هذا من جانب ومن جانب آخر إن قصص الأمم السالفة تتّسم بعدّة
سمات منها:
أ - أنّها تحكي الواقعيات الملموسة وليست براهين جافّة عقليّة ولذلك يفهم مغزاها
جميع الناس حتى الأميِّين بل الأطفال وهذا هو سبب انجذاب عامّة الناس للقصص.
ب - أن القصّة تعرض نموذجاً عمليّاً في مجال التربية فهي أشدّ وقعاً من الكلمات
الحكميّة الجافّة.
ج - أن تاريخ الأمم الماضية معرض لتجاربهم وحيث أن جوهر الحياة الإنسانية في جميع
بني آدم واحد وتحكمها سنن تاريخيّة ثابتة لا تتغيّر وإن تغيّرت مظاهر الحياة
والأشخاص إذن فيمكن للإنسان الإلمام بتلك السنن وتقرير وضع المستقبل على ضوء معرفته
للتاريخ وكان العارف به قد جرّب عمليّاً تجارب الماضين وعرف رموز انتصارهم وأسرار
فشلهم كما قال المولى أمير المؤمنين عليه السلام في وصيته إلى ولده "أي بني إني
وإن لم أكن عُمِّرْت عمر من كان قبلي فقد نظرت في أعمالهم وفكرّت في أخبارهم وسِرت
في آثارهم حتى عدت كأحدهم بل كأني بما انتهى إليّ من أمورهم قد عُمِّرت من أوّلهم
إلى آخرهم" إذن فالتاريخ مرآة يعرف كل جيل من البشر نفسه على ضوئه حتى ينظر به
إلى نفسه ويقيّم تصرفاته ويصحّح أخطاءها. فلذلك نرى القرآن قد استعمل الأسلوب
القصصي بأحسن ما يمكن وقد أبان القرآن فوائد هذا الأسلوب بعدّة آيات منها:
﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ
فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾
(هود) فأهداف القصّة في القرآن بالإضافة إلى ما ذُكر من آيات.
أ - تثبيت قلب الرسول وتقوية معنويات الأمّة في مواجهة الأعداء.
ب - تبيين الحقائق والعوامل الأصيلة للنجاح والفشل.
ج - الموعظة والتحذير.
د - التذكير للمؤمنين،
هـ - الدعوة إلى التفكير.
و - الاعتبار بما جرى على السالفين.
ويفهم الأخيران من قوله سبحانه:
﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾
(الأعراف: 176) و
﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾.
* ما هي الفوارق بين القصص القرآني والبشري؟
القصّة البشريّة تتّصف بعدة خصائص منها:
أولاً: أنّها أعم من أن تحكي الواقع أو يكون أساسها الخيال كما هو في الأساطير وبعض
الأفلام.
وثانياً: أن الهدف منها إمّا ترييح الخواطر والتّسلية واللهو وقضاء جلسات السّمر
والأنس فلذلك ترى التخيّل طافحاً عليها أو تحصيل المعلومات التاريخية عن الأمكنة
والأزمنة والأشخاص والحوادث التاريخية ولذلك ترى القاصّ يعتني بجميع الجزئيات مهما
أمكن ولكن القصص القرآني يتّصف بخصائص تختلف تماماً عن القصص البشرية وتلك الخصائص
ناشئة عن طبيعة الأغراض والأهداف القرآنيّة التي يمكن أن نلخّصها بالتربية والتعليم
وإقامة القسط والعدالة الإجتماعيّة على ضوء تعاليم الوحي. وأما الخصائص الناشئة من
تلك الأهداف فيمكن تلخيصها بما يلي:
أ - الواقعية: لأن المقصود من القصّة هو تغيير الواقع المعاش إلى صيغة أفضل وليس
تعبيراً عن الخيالات والأماني وقد أشار
الله سبحانه بقوله:
﴿وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ﴾
(هود: 120).
ب - الصدق في ذكر الأحداث
لأن الكذب غير قادر على تربية الإنسان وإن انطلى في فترة
مؤقتة فإنه سرعان ما يفتضح الكذب فيفقد تأثيره على ضمير المخاطب. وقد صرّح القرآن
بصدق قصصه بقوله:
﴿... مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى﴾
(يوسف: 111).
ج - التربية على الأخلاق الفاضلة
لا الأحاسيس من شخصيّة الإنسان. ولعلّ في قوله
﴿وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾
إشارة إلى ذلك.
د - الحكمة وكشف الحقائق الكونية والسُّنن التاريخيّة
ويشير إلى ذلك قوله
﴿... وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ﴾
والمقصود من تفصيل كل شيءٍ ليس بسرد الحوادث تفصيلاً فإن هذا ديدن كتب التاريخ بل
بيان الأصول الكليّة لتلك السنن والقوانين بأجمعها. وبيان تلك الأصول لا يحتاج إلى
بيان تفصيل الجزئيات فمثلاً في قصّة أصحاب الكهف يكتفي بقوله
﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾
في تبيين الأصل الثابت وهذا لا يحتاج إلى بيان عددهم الواقعي لذلك يعرض القرآن عنه
لعدم أهميته في هذا المجال سواء كان ثلاثة أو أكثر بقوله:
﴿سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ
سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ
كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ
فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ
أَحَدًا﴾
(الكهف: 22).
* ما هي أغراض القصّة القرآنية؟
نظراً إلى أهداف الدين التي ذكرناها فيما سبق استخدم القرآن القصّة في سبيل الوصول
إلى تلك الأهداف بشكل لطيف ويتناسب مع الروح الإنسانية ويمكن تلخيص تلك الأغراض
بهذه المحاور:
الأول: الأغراض الرسالية. نظير:
أ - إثبات أصل الوحي والرسالة السماوية والارتباط بالغيب مثل قوله:
﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ
لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ﴾
(يوسف: 102).
ب - وحدة الدين والعقيدة التوحيديّة كاستراتيجية عامة لجميع الأنبياء كما جاء في
قوله:
﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا
الله
وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾(النحر:
34) فما جاء به الإسلام ليس بدعاً من الرّسل بل إنما هو تكميل لما جاء به من
سلف من الأنبياء لقوله صلى الله عليه وآله: "إنما بعثت لأتممّ مكارم الأخلاق".
ج - بيان أن أساليب الأنبياء في الدعوة ومواجهتهم للأعداء استراتيجياً واحدة وإن
اختلفت بعض الشيء تكتيكيّاً، وكذلك نوعيّة مواجهة الأعداء لهم واحدة وقد أشار
الله بقوله
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا
وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله
﴾ (آل عمران: 146). وقوله تعالى:
﴿وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾
(الزخرف: 7).
د - بلورة التبشير بالمغفرة والتحذير بالعذاب كما في قوله:
﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي
هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ﴾(الحجر:
49 50) وهذا الأمر يطفح على كثير من القصص القرآنيّة.
هـ - بيان نعمة الله وتفضّله عليهم:
﴿وَمَنْ يُطِعِ
الله وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ
الله عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ
وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا
﴾ (النساء: 69). وهذا من أجل أن لا يتوهم الناس إعراض
الله عنهم
في الظروف الصعبة والمحن التي يواجهها الأنبياء.
ز - بيان الغايات من إرسال الرسل. مثل قوله:
﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ
الله النَّبِيِّينَ
مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ
بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾
(البقرة: 213).
الثاني: الاغراض التربويّة:
أ - تربية الإنسان على الإيمان بالغيب، "والذين يؤمنون بالغيب" الخ من أوصاف
المتقين.
ب - تربية الإنسان على الإيمان بالقدرة الإلهية مثل القصص التي تتعرّض إلى خوارق
العادات كخلقة آدم ومولد عيسى وقصة إبراهيم مع الطير في إثبات المعاد وإحياء عزير
بعد موته مئة عام.
ج - تربية الإنسان على الأخلاق الفاضلة، كقصّة ابني آدم وصاحب الجنتين، وقصص بني
إسرائيل بعد عصيانهم.
د - التربية على الاستسلام أمام المشيئة الإلهية والخضوع للحكمة كما جاء في قصة
الايحاء إلى أم موسى أن تلقيه في اليَمّ.
الثالث: الأغراض الاجتماعيّة أي بيان السنن التاريخيّة في
حركة الإنسان والمجتمع الإنساني من قبيل:
ألف - سُنة ارتباط تغيير الأوضاع الاجتماعية بتغيير المحتوى الروحي للبشر مثل قوله:
﴿ذَلِكَ بِأَنَّ
الله لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى
قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ
﴾ (الأنفال: 53).
ب - سنّة انتصار الحق على الباطل
﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ
زَهُوقًا﴾
(الإسراء: 81).
﴿كَتَبَ الله لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾،
﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ
يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾
(الأنبياء: 105) وهذا مما يبعث الأمل في النفوس وهو النافذة الرئيسة في شدّ
الناس بالإستقامة في طريق الجهاد ومقارعة الظالمين.
ج - سنّة الابتلاء والامتحان وأنّ الصبّر مفتاح الفرج والنّصر
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ
وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ
﴾ (محمد: 31) ولا شك أن امتحان
الله للعباد ليس لرفع الجهل بل
للتربية وإثارة الاستعدادات الكامنة في ذات الإنسان وتسييرها من القوّة إلى الفعل
ليحصل بذلك التكامل الإنساني.
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ
الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ
وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ
الله أَلَا إِنَّ نَصْرَ
الله قَرِيبٌ﴾
(البقرة: 214). فهذه هي الأغراض والأهداف للقصّة القرآنية.
* كيف تفسرّون ظاهرة تكرار قصص الأنبياء في القرآن؟
القصص القرآنية سواء كانت تخص الأنبياء أو غيرهم حيث هناك
قصص ترتبط بغير الأنبياء وبأناس صالحين من الرجال والنساء وهذه القصص كثيراً ما
نراها متكررة وهذه الظاهرة يمكن تفسيرها بعدّة وجوه:
أولاً: أن التكرار لم يحصل بشكل واحد بل تارة تأتي القصّة بإجمال وأخرى بتفصيل.
ثانياً: أن القصّة قد يؤتى بها في صدد بيان شيءٍ خاص وبمناسبة خاصة وقد يؤتى بها
في موضع آخر لبيان شيءٍ آخر ومناسبة أخرى.
ثالثاً: أنّ الهدف الرئيسي للقصة كما قلنا هو التربية والتربية على أي أخلاق كانت
أو أسلوب تقتضي التكرار كما هو واضح عند علماء النّفس فإنه لا يمكن خلق العادة عند
أيّ حيوان فضلاً عن البشر إلاّ بممارسة العمل التربوي مكرّراً ولعلّ الوجه من تكرار
الصلوات في الفرائض والنوافل كل يوم وليلة أو الذكر بعدد خاصّ بعد كلّ صلاة مثل
تسبيح فاطمة الزهراء عليها السلام يرجع إلى ذلك الهدف.
رابعاً: إن التكرار من وسائل التحدّي بالقرآن لاختلاف القصّة بالنظم ومع كل ذلك عجز
العرب عن الإتيان بمثله.
* لم يتحدث القرآن إلا عن أنبياء عاشوا في منطقة تعرف اليوم بمنطقة الشرق الأوسط،
ألم يكن هناك أنبياء خارج هذه المنطقة أم أن القرآن لم يذكرهم وما هي الأسباب؟
لا شك أن المجتمعات البشريّة منتشرة في ربوع الأرض ولا تنحصر في الشرق الأوسط بل
توجد في أماكن أخرى دانية أو قاصية كإيران والهند والصين وأوروبا وأفريقيا ولا بحث
من أنّ الله قد أتمّ الحجة على جميع الخلق ولم يترك أمّةً سدىً بلا إرسال رسل
لقوله:
﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ﴾
(التوبة: 15)
﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾
(فاطر: 34) وبناءً على الرواية المشهورة كان عدد الأنبياء مئة وأربعة وعشرون
ألفاً بل أكثر من ذلك على ما جاء في بعض الأخبار. لكن القرآن لم يذكر إلاّ قصص خمسة
وعشرين نبياً وترك قصص الآخرين حيث قال سبحانه:
﴿وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ
نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾
(النساء: 164). ولعلّ سبب عدم ذكر أكثر الأنبياء سواء كانوا في الشرق الأوسط
أو غيره من الرّبوع يرجع إلى عدّة جهات:
أولاً: أنّ القرآن ليس كتاباً تاريخياً حتى يرى رسالته في سرد جميع الجزئيات لجميع
الحوادث والأشخاص فيعنى بذكر جميع الأنبياء وإنما غرضه بيان الأصول العامّة
المرتبطة بالأغراض الرسالية والتربوية والاجتماعيّة وقد رأى الباري كفاية ما ذكره
من قصص لتلك الأهداف فالإتيان بشيءٍ غيره يكون من فضول الكلام ولغواً وحاشا حكمة
الحكيم من ذلك.
ثانياً: إن البشرية انطلقت من الشرق الأوسط فهبوط آدم في مكّة ووفاته في النّجف
وانتشرت شيئاً فشيئاً إلى ربوع الأرض فالشرق الأوسط هو مركز الحضارات البشريّة وقد
بُعث أنبياء أولي العزم أصحاب الشرايع كنوح عليه السلام وإبراهيم عليه السلام وموسى
عليه السلام وعيسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وآله في هذه المنطقة وبقيّة
الأنبياء والأوصياء إنّما كانوا مبلغين لرسالاتهم ولم يأتوا برسالات جديدة ولا شكّ
أنّ ذكر قصص الأصول يغني عن قصص الفروع.
ثالثاً: أن القصص القرآنية تحمل في طيّاتها مفاهيم عامّة وأصولاً ثابتة لا تختصّ
بزمان دون زمان ولا بمكان دون مكان لأنّها تُبنى على الفطرة الإنسانيّة والسنّن
الإلهيّة وتتكلم مع جوهر الإنسانية مع غضّ النظر عن العوارض والظواهر التي هي في
معرض التغيير والزوال، لقوله تعالى:
﴿فِطْرَةَ الله
الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله﴾
﴿فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ
الله تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ
الله تَحْوِيلًا﴾
إذن فهذه القصص مفيدة لأي أمّة تسكن في أي نقطة من نقاط العالم لأجل الوصول إلى
أهداف القرآن.
* "من هو أكثر الأنبياء عليهم السلام صبراً كما ورد في
القرآن الكريم"؟
لا شكّ أن الأنبياء كانوا كلهم موصوفين بالصبر والاستقامة مع اختلاف رُتبهم ومن بين
النماذج الواضحة في هذا المضمار هو أيوب النبي ... حيث صبر على محن وبلايا صعبة
للغاية من موت الأولاد والفقر والمرض والإهانات وغيرها ومع ذلك لا يمكننا أن نقول
بأنّه أكثر الأنبياء صبراً لأن أُولي العزم من الأنبياء لا شك بأفضليتهم على غيرهم
وسبب الأفضلية هو مقدار صبرهم ولو لم يكن صبرهم أكثر من غيرهم لما كانوا أفضل من
غيرهم وأيوب ما كان من أولي العزم وأفضل أولي العزم هو الرسول الخاتم صلى الله عليه
وآله وأن صبره لا شك بأنه أكثر من غيره وقد ورد في الحديث: "ما أوذي نبي مثل ما
أُوذيت". وصبر باقي الأنبياء مقارنة مع صبر الرسول صلى الله عليه وآله من حيث
المدة الزمنية التي عاشوها هو أطول من ناحية الكم أما من ناحية الكيفية فإن الرسول
صلى الله عليه وآله هو الأعظم كيفية ولذا قال في تفسير قوله: "فاستقم كما أمرت ومن
تاب معك" شيّبتني سورة هود. ولم يكن ذلك إلاّ لعظم تفكيره بالصبر والاستقامة
المأمور بها.
* يبدو أنّ القرآن فيه تأكيد واضح على قصص أنبياء أكثر من
أنبياء آخرين كقصة النبي إبراهيم عليه السلام وموسى عليه السلام فهل يعني هذا أهمية
الأنبياء حسب حجم القصة؟
هذا المطلب قابل للنقاش صغروياً وكبرويّاً. أمّا من حيث الصغرى فلأنّ القصص
المرتبطة بنبي الإسلام صلى الله عليه وآله من الغزوات ومواجهات الأعداء ومن بيان
نزول الأحكام وغير ذلك أكثر بكثير من قصص إبراهيم وموسى عليه السلام فالقصص
المرتبطة بنبي الإسلام أكبر بكثير من القصص المرتبطة بغيره وأما من حيث الكبرى فإن
القرآن وإن قال بأن الأنبياء متفاضلون من حيث الرتبة "فضلنا بعضهم على بعض" إلاّ أن
في سرد قصصهم ليس في مقام تقييم الأنبياء حسب حجم القصّة قلّة وكثرة بل القصص ذُكرت
لأهداف وأغراض خاصة كما ذكرناها مضافاً إلى أنّ خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله
هو الأفضل وإن قلنا بكثرة قصص إبراهيم وموسى عليه السلام، فالكبرى مخدوشة وأمّا
الإكثار من ذكر إبراهيم عليه السلام وموسى عليه السلام فيرجع إلى أسباب أخرى ترتبط
بالقاعدة واتباع ذينك النبيين وبموقعيّة إبراهيم بين الديانات الإلهية وحتى
المشركين وموقع موسى عليه السلام بين اليهود والنصارى ومشابهة أدوار رسالة موسى
عليه السلام وأعدائه بأدوار رسالة رسول الإسلام وأعدائه وغير ذلك. إذن فالإكثار
يرجع إلى هذه الأسباب ولا يرجع إلى أفضلية هذين النبيين بالنسبة إلى غيرهم.
* ما هو سرّ اختلاف القرآن في عرض الموضوعات من إطناب
وتفصيل أحياناً وإيجاز أحياناً أخرى؟
يرجع السرّ إلى الأغراض التي يريد القرآن استيفاءها من القصّة فتارة تقتضي الأغراض
الإيجاز وتارة تقتضي التفصيل مضافاً إلى أن الدعوة الإسلامية مرّت بأدوار مختلفة
مثل ما قبل الهجرة في مكة وما بعدها في المدينة، فقد كانت تقتضي الظروف في مكة
الإيجاز والظروف في المدينة التفصيل.
* ما هي نظرة القرآن الكريم الحقيقية لبني إسرائيل ومن هم
بالتحديد؟
بنو إسرائيل هم ذراري الأسباط الاثني عشر وهم أولاد يعقوب النبي عليه السلام وحيث
أن يعقوب هو إسرائيل أي عبد
الله (إسرا) يعني عبد و"إيل" يعني
الله فالذرية
المنسلّة منه اطلق عليها بنو إسرائيل. وأمّا نظرة القرآن بالنسبة إليهم فلا شك أن
بينهم أنبياء وصالحين لاقوا من المحن ما لاقوا وبعضهم أدركوا رسول
الله صلى الله
عليه وآله وأسلموا وأخلصوا إلاّ أنّ أكثرهم يتسمون بصفات رذيلة وبعيدة عن منطق
الأنبياء للغاية كالتمرّد على
الله والأنبياء، وقتلهم وقتل الصالحين الآمرين
بالمعروف والناهين عن المنكر، وإرهاب عباد
الله، والحرص، والجشع، والتكبّر، والمكر
وخيانة العهود والمواثيق، والبخل والتقاعس عن الجهاد والتضحية في سبيل
الله،
وتخطيط المؤامرات الماكرة ضدّ الإسلام بحيث وصفهم الباري بشدة عداوتهم للذين آمنوا.
والظاهر أن تركيز القرآن على تكرار قصصهم يرجع إلى طبيعة تصرّفاتهم وأنّهم الأعداء
الالدّاء في عصر الرسالة المحمدية وعلى طول تاريخ الإسلام وأما وضعهم الحالي فواضح
كلّ الوضوح.
* كلمة أخيرة؟
أسجِّل تقديري وشكري الجزيل للأخوة العاملين في مجلة بقية
الله وأبارك لهم هذه
الجهود الكريمة والنشاطات المثمرة وأسأل
الله لهم التوفيق والنجاح في كل ما
يريدونه من خدمة لصالح الإسلام والمسلمين.