مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

مشاركات القراء: اليوم الأخير

مصطفى زين العابدين

لم تكن قد ألفت مثل تلك النظرات التي طفقت تتقد في عينيه هذه الأيام. كان يطيل النظر إلى عيني زوجته، وكانت هي الأخرى تبحث في يأس عن سر ذلك التغيّر الخطير.. حاولت مرة، بعد أن استجمعت جرأتها، أن تسأل:
- أبو أحمد.. أثمة شيء تخفيه عني؟!...
- أبداً... اطمئني!
لم يزد على تلك الكلمات حرفاً... قالها وارتمى على سريره وراح يحدق في الأشياء بنظرات تنم عن أنه يفكر في شيءٍ ما.

الوقت متأخر من إحدى الليالي.
أشاحت بوجهها عنه إلى طفلها أحمد وسحبت فوقه الغطاء، ثم وضعت رأسها المثقل بالأوهام على الوسادة... لكن لم يكن باستطاعتها أن تنام.
في الصباح التالي لم يكن كعادته، لقد استيقظ مبكراً في جوف الليل وطفق يصلّي ويقرأ القرآن.. ولم ينم قبيل طلوع الشمس. كان قبلاً يعود إلى النوم ثم ينهض في الثامنة وبعد أن يتناول على عجلٍ شيئاً من الطعام يسرع إلى محل عمله... بَيْدَ أنه لم يكن كذلك في هذا الصباح، الأمر الذي جعل الزوجة في حيرة من أمرها.
لم ترغب أن تتدخل في أمور تخصه، فقد كانت مقتنعة في بادئ الأمر جيداً، لو أن ثَمّة شيء له علاقة بها لما تأخر في أن يبوح لها به... بيد أنها لم تستطع أن تتحمل ثقل الانتظار، فبادرت تقول بهدوء:
- ربما أستطيع أن أساعدك،... أرى أن شيئاً يشغلك يا أبا أحمد!!...
- أبداً...
- لكنك لم تذهب إلى عملك؟!!...
حدّق بعينيها طويلاً... ثم انتقل بأنظاره إلى أحمد، طفله الوحيد الذي كان يعبث ببعض لعبه. دبّابة أحمد الصغير (تئز) وهي تحاول أن ترتقي الوسادة التي تصطدم بها...
خطا خطوات قصيرة ووقف إزاء صورة مؤطرة لشخص، كانت معلقة على الجدار...
ارتجف قلب الزوجة،..
نظراته إلى صورة أخيه الشهيد هذه المرة تنمّ عن معنى ما... فقالت:
- ولكنه ركن إلى الخلود أبا أحمد... هنيئاً له... سيقتص الله من الظالمين..
- ونحن؟؟... تعساً لنا... لأننا لم نزل نجهل قيمة الجراح التي أوشكت أن تجف لطول النزف...
طفح على وجه الزوجة نوع من الرعب.

قد تكون علمت أن شيئاً ما يعتمل في صدره فحاولت أن تداعب عواطفه، اقتربت منه وقالت بكلمات مبتورة متلعثم:
حسناً... ابق معنا اليوم؟... أن أحمد سيفرح كثيراً،... لقد بكى لأجلك يوم أس حين تأخرت...
لم يشهد البيت ترقباً وصمتاً كما يشهده ذلك الوقت،.. فالأب لم تزل عيناه مسمرتان في صورة أخيه الشهيد... الأم بلغت حدّ اليأس، فطفقت في صمت تفكر، علّها تجد سبباً تعالجه لحالة زوجها،.. حتى الصغير يبدو وكأنه شعر بنوعٍ من الكآبة، فرمى بدبابته الصغيرة جانباً، ثم أسرع إلى حجر أمه يلوذ به من المجهول.

الزوجة تعلم جيداً أن أشياءً خطرة تعتمل في قلب زوجها، وأن تلك الأشياء طغت على السطح بعد اغتيال أخيه الشهيد. كانت تتذكر حاله عندما أخبر... لقد عاش وقتئذٍ في وضع أقرب إلى فقدان الرشد، إلا أنها استطاعت وبنجاح أن تعيد المياه إلى مجاريها. ولكن هذا لا يعني أنه نسي الجريمة، وأنه لم يفكر بالقاتل، لأنه لم يفقد الشعور بالأشياء بعد. بل أن الحادث أيقظ في نفسه أشياء كثيرة كانت كامنة ونقله إلى حالة أخرى من الشعور بالتقصير إزاء ما يطلب منه... إزاء الخطوة التي يجب أن يخطوها.

قلب الزوجة طفق يهدر مرة أخرى... دنت منه... مسحت شفتيها بابتسامة متكلفة ثم قالت:
- أبا أحمد.. ما رأيك؟... نسافر إلى بغداد... نسيت أنك وعدتني بزيارة الإمام الكاظم عليه السلام؟... متى ستفي بوعدك؟؟...
ولأول مرة في ذلك اليوم صدرت عن ثغر أبي أحمد ابتسامة هادئة طار لها قلب الزوجة فرحاً غير أنها ما كان ليخفي عليها ما يستتر خلف تلك الابتسامة. وأرهفت السمع بانتظار الرد حتى قال: وهو يحدق بعينيها اللامعتين من بقايا الدموع، وكأنه يرى بين أهدابهما خصماً يصارعه بلا هوادة:
- ستبقين يا أم أحمد... وربما سنذهب في يوم ما لزيارة الجوادين، ناوليني أحمد كي أقبله...
ناولته أحمد بيدين مرتجفتين، لم يخف ذلك على أبي أحمد، ولم يتساءل، لأنه هو الآخر طفقت شفتاه ترتجف على وجنتي الصغير أحمد...
ما كانت ليرغب في أن ترى ذلك زوجته... فناولها الصغير على عجل وخرج من البيت...

عندما طُرق الباب في ساعة متأخرة من تلك الليلة كانت الزوجة تنتظر بفارغ الصبر رجوعه.. فهبّت مسرعة لفتح الباب...
بعد أن عانقت عيناه عيني زوجته بصمت. دخل وهو يحمل في يده علبة ملوّنة.
خطا داخل البيت... كان يفتش عن أحمد... وقبل أن يسألها عنه نادت بصوتٍ تخنقه الدموع:
- أحمد... أحمد..
كان أحمد يرقب دبّابته الصغيرة وهي تحاول أن ترتقي الوسادة، عيناه جاحظتان ترقبان محاولة الدبابة باهتمام وهي (تئز)، إلا أنها في هذه المرة أفلحت في تسلق المرتفع بنجاح، وشعر الطفل بنشوة النصر وتمتم بلغة طفولته، ممزوجة بضحكات ناعمة مرحة، لكن عندما تناهى إلى أسماعه صوت أمه أشاح بوجهه فوقعت عيناه الصغيرتان على أبيه، فانفرجت شفتاه عن ابتسامة بريئة وأسرع ليرتمي على ساعديه اللتين التقفتاه عالياً، وضمَّه إلى صدره وراح يقبله بشوق...
ولاحظت عينا الطفل العلبة الملونة التي كانت معلقة بين يدي الأم..
بعد فترة ليست قصيرة من العناق أنزل الأب طفله وأجلسه أمامه وتناول العلبة الملونة.
عينا أحمد لم تزل تلاحق العلبة الملونة،...
قرّبها منه، ثم فك الشريط ورفع الغطاء،...
أشرقت عينا الطفل فرحاً بعد أن رأت الهدية،..
كانت بندقية صغيرة، مسكها الطفل مسكة الثائر المتمرس ثم رفعها عالياً وضغط على الزناد،.. فأطلقت صوتاً رتيباً كأنه الرعد..

الساعة الآن بلغت التاسعة مساءً،...

دنا الأب مرة أخرى من الصورة المعلقة، صورة أخيه الشهيد، تطلّع إليها ملياً، شعر أنه بدأ يسبح في عالم من ذكريات الأمس المرة... فانبجست من عينيه قطرات متواترة من الدموع الساخنة واستشاطت في روحه رغبة الإقدام...
إذا كان ثَمّة تردد فإن ذلك التردد تحول في تلك اللحظات إلى قرار غير قابل للتغيير..
الصمت عاد ليطبق على البيت كأنه الموت...
عينا الزوجة ما فتئت تتحدثان بلغة الدموع همساً،..
لم يكترث لدموعها..
كان يتحاشى النظر إليها... أنه يدرك جيداً مدى تأثيرها وهي تذرف الدموع في صمت... إلا أنه ومع اقتراب لحظة الرحيل شعر وكأنه مجبر لأن يلقي عليها نظرة الوداع...
عندما أدار وجهه إليها كانت عيناها محمرتين من البكاء... اقترب منها، ضمّها إلى صدره، أحسّ أن زفير صدرها يتلظى حتى يكاد أن يلفح صدره...
كان قوياً، فلم يتأثر بما يرى من زوجته،... ولم يؤثر نشيجها على القرار الذي اتخذه،.. أن ما يعتمل في صدره أقوى من أن تهزه العاطفة أو تطفئه الدموع.
- خذي أحمد واذهبي إلى بيت عمي...
قال لها ذلك ودنا من الصغير أحمد بعد أن تركها تختنق بعبراتها...
- وأنت أيها الفارس الصغير... ماذا ستفعل أيها العزيز؟...
بيد أن الطفل أجاب أباه بأن ضغط على الزناد وهدرت بندقيته الصغيرة...
وصدرت عن ثغر الأب ابتسامة رضى فاترة ذات معنى..
وقبّله بحرارة قبلة الوداع ونهض متثاقلاً...
تناول أشياء كان قد هيأها من قبل...
وأسرع خارجاً..

انتبهت الزوجة إلى رحيله... أسرعت خلفه وهي تمد يدين ترتعشان في محاولة منها علّها تحظى برؤيته لحظات أخرى قليلة،...
لكن يديها اصطدمتا بالباب الذي أطبقه خلفه....

... في ساعة من تلك الليلة كانت الزوجة قد غفت على وسادة مبتلة بالدموع، والصغير منطوٍ في حضنها وأنامله الناعمة تحيط بهدية أبيه العزيزة،...
لكن لم تمضِ ساعة إلا واهتزت المدينة مع انفجار أيقظ الجميع.
انتبهت الأم مذعورة...
لقد أدركت الآن كل شيء... وأدركت أن الراحل لن يعود...
في الصباح التالي.. كان الصغير أحمد يقف عند الباب يرقب الطريق.
.. حاولت الأم انتزاعه بَيْدَ أنه رفض صارخاً..
كان يمسك بندقيته.. منتظراً أباه!...

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع