شهادة عشق:
وصية الشهيد باغاني*
إلهي خلقتني عاشقاً لثدي أمي في الطفولة، ثم أودعت في كياني عشق الأم والأب حينما صرت أكبر، ومن ثم بدأت أعشق الدنيا وما تحتويه من مال وجاه، وبدأت أعشق المدرسة والجامعة وغيرها.
ولكن، كل هذه الأنواع من الحب والعشق ما لبثت أن تراجعت وأخلت ساحة كياني ووجودي لمحبٍ وعشقٍ أكبر، عشق حقيقي وأصيل، ألا وهو عشقك أنت. لقد فهمت حينها أن حبك وعشقك هو الباقي الخالد وما سواه عشق كاذب. نعم، فهمت أنه لا ينفع مال ولا بنون، فهمت أنه حينما تتغيّر الظروف والأجواء يفرّ المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه.
وهكذا عقدت القلب على عشقك وحدك، ولكن بعد فترة من الوصال والحب أفقت، واستيقظت، وانتبهت إلى أنني أقل وأحقر من أن أكون عاشقاً لك وأنت أجلّ وأعظم من أن تكون محبوباً ومعشوقاً لي. والتفت إلى خطئي واشتباهي، لقد كنت أتصور نفسي عاشقاً ومحباً لك إنما الحقيقة أنك أنت الذي أحببتني وجذبتني إليك إذ لو كنت أنا المحب لك حقاً لكنت منجذباً إليك بكل وجودي وكياني، ولكنت مطيعاً تابعاً بلا أدنى تردد أو توقف. ولكنني حين التفت إلى نفسي رأيت أني وقعت بعض الأحيان في حبائل الشيطان، ومع ذلك كنت أرجع مرة أخرى إلى الطريق المستقيم، والآن فهمت لماذا كنت أرجع، كنت أنت محباً لعبدك، كنت تمزّق وتقطع حبائل الشيطان كلما وقع عبدك في شباكه، وأنت الذي انتظرته كل ليلة عساه يتوجه إليك فتراه الآن فهمت أنت، أنت المحب لعبدك الصادق، إذ من يكون عبدك كي يكون محباً وعاشقاً لك.
نعم... أنت الذي تحبني، وفي كل ليلة كنت توقظني وتنتظر صوتاً، نداءاً من جانب محبوبك ومعشوقك، ولكني.. أنا سيء الحظ، كنتُ أتمنّع بالدلال، وأخسر ليالي الوصال كي أنام!... ولكنك لم تتركني.. فكنت تعيد الكرّة تلو الكرّة، حتى استطعت أن تظفر بي، وأنا الممتنع الشارد.. إنه طوق عشقك وحبك أنت الذي وضعته في عنقي، وحينما ظفرت بي أخذتني إلى ساحات الجهاد ليخلو جو الوصال والحب بعيداً عن كل أنواع الضوضاء والضجيج. ثم أخذتني بعد ذلك إلى خطوط العشق الأمامية، وهناك سقيتني من شراب عشقك، وما كان أحسنه من شراب، فلا زلت سكران لذّته، سكرت من أوّل جرعة شربتها... وفي حال السكر طلبت الثانية... ولكنك هنا... كنت أنت الذي تواجهني بالتمنّع والدلال، مددتُ إليك يدي... قدمت إليك كأسي... علك تملأها مرة أخرى ولكنك كسرت كأسي ثم توسلت إليك كي تعوضني عنها كأساً أخرى لأنجو من الحجاب المادي الجسماني، ولكنك امتنعت ورفضت... أنا الآن هيمان صاد، بيدي الكأس ولا زلت أنتظر جرعة أخرى من شراب عشقك.. يا محبِّي... يا إلهي، إملأ كأسي ولا تدعني حائزاً سكراناً... أنت الذي انتظرتني عمراً ودهراً، فالآن حيث وصلت إليّ لماذا تدعني وتتركني.. أنت الذي تحدثت عن البيع والشراء لِمَ تتركني للهب ساعات الانتظار لو كنت أعلم أنك لا تريد شراء سلعتي، وأنك لا تريد ملء كأسي، لكسرت كأسي بيدي، ولأحرقت سلعتي بنفسي...
[نعم، إسقني يا ربّ من كأس الشهادة] فحينما يصل المحبان إلى بعضهما، وحين يحظى العاشق بوصال معشوقه ماذا يمكن أن نسمي تلك اللحظات سوى الشهادة؟ الشهادة... خلوة العاشق والمعشوق، الشهادة تأبى التفسير ألا يا أسرى النفوس والأجسام لا تتوقعوا أن تفسّروا الشهادة، فإنكم عاجزون عن إدراك قصتها وحده الشهيد من يستطيع أن يفهم الشهادة لأن الشهيد ليس شخصاً يسبح بدمائه قبل أن يحظى باسم الشهيد، الشهيد موجود في هذه الدنيا وقبل أن يتخبط بدمه وكما أنكم لا تستطيعون أن تعرفوا الشهداء وهم في هذه الدنيا، فكذلك لن تستطيعوا أن تفهموهم وتعرفوهم بعد أن ينالوا الوصال الشهيد لا يفهمه إلا الشهيد، إذا كنت شهيداً فأنت تعرف الشهيد فانهضوا وفكروا في أحوالكم وشؤونكم أنتم لأن الشهيد قد نال مراده، ولا همّ لديه.. فالشهداء يتألمون لحالكم أنتم ويحملون همكم ويعجبون منكم لأنكم لا تفكرون في أنفسكم.. ارجعوا إلى أنفسكم، واكسروا سجن الجسم والمادة، وحطّموا القفص، وحلّقوا إلى أماكن الحبيب طائرين، واعلموا إنكم خلقتم للطيران، لا للبقاء في الأقفاص.. اتركوا هذا البيت المنهزم المتداعي، وتوجهوا إلى عالم الملكوت.
أمّا أنت أيها القائد... يا من فدتك أرواح العالم، يا ذخيرة الله للشيعة. إنني مدين لك، إني أضع رأسي وروحي في طبق الإخلاص فداءً لك... إنك أنت مصباح الهداية.. وسفينة النجاة، أنت حسين العصر الذي سطع في ليالي الظلم السوداء، وأضأت بنورك قلوبنا المظلمة، أنت الذي علّمتنا أن سيد الشهداء قد أوضح لنا تكليفنا.. أنت الذي علّمتنا أن من يتّبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مأمور بالاستقامة. ونحن قد تعلمنا درس الشهادة منك.. فأنت نفسك أبو الشهداء.. إلهي.. أطل عمر مصباح الهداية هذا.. حتى ظهور صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف.
* الشهيد باغاني شهيد إيراني مسلم قضى في عمليات كربلاء (5) حين تسلل من موقعه ليوقف مدفعاً رشاشاً للعدو كان يقصف على المجاهدين. وذلك يوم 24 جمادى الآخرة 1407هـ.