نسرين إدريس
ملاحظة: هذه القصة الواقعية حصلت مع ابن الشهيد المجاهد "محمد
عسّاّف"
كان يرمق الأولاد وهم يلعبون كرة القدم وضجيجهم يمزق صمته على حزنٍ عميق،
وهو على الشرفة وحيداً، تتفقده والدته تارة وتحفزه للنزول واللعب مع أقرانه تارة
أخرى، غير أن محاولاتها باءت بالفشل... لقد تغير "محمود" كثيراً منذ استشهاد والده،
خيمت على روحه الكآبة، وذبل نشاطه، وندرت ابتسامته، وصار ينفرد بنفسه ساعات طوال
حتى كأنه يحس أنه في هذه الدنيا مجرد زائر لا مكان له... مرت ثلاث سنوات على
استشهاد والده، وها قد بلغ "سن السادسة" ولم يفقه بعد سر غيابه، فما فتىء يسأل
عنه بإلحاح شديد، وينتظره، ويحسب في كل شيء حسابه، كأن السنوات الثلاث التي مرت
مجرد لحظات.. دخل إلى المنزل وراح يلعب على الدراجة الهوائية الصغيرة، فيتنقل
بين غرفة النوم والصالة، وكلما وصل إلى جانب والدته استعمل صوته بوقاً لتبتعد عن
طريقه وهي تمازحه وتلاعبه.. وبين ذهاب وإياب كُسرت الدراجة وانفصل المقود والدولاب
الأمامي عن الجزء الخلفي منها.. فسارعت إليه والدته خوفاً من أن يكون قد جرح إثر
سقوطه أرضاً، إلا أنه جلس لينظر بعينيه الدامعتين إلى الدراجة المكسورة.
إنها ليست المرة الأولى التي تنكسر فيها الدراجة بمحمود، ولم يعد ينفع أخذها إلى
التصليح، لكن والدته التي وعدته أن تشتري له أخرى جديدة، خففت عنه الأسى بخسارتها،
فحملت الدراجة ووضعتها في العلية بحيث كان الدولاب الخلفي صوب بابها.. بقي محمود
ينظر إلى أمه صامتا وهي تهيئ نفسها للذهاب قليلاً إلى السوق، وبين فينة وأخرى يلقي
نظرة خاطفة على الدراجة، ثم ما لبث أن وقف مجدداً على الشرفة لينظر إلى لعب الأولاد،
وما لبثت أمه أن مرت بينهم بهدوء ووقار.. سرعان ما عاد "محمود" إلى الداخل متهادياً،
مطرق الرأس يفكر بما يمكن أن يسليه، لكن نظراته المتراقصة على بلاط المنزل شخصت على
قدمين تقتربان منه.. رفع رأسه مبتسماً وقد اقترب الرجل الزائر منه ليمسح على
رأسه، معانقاً إياه بحرارة وشوق..
مشى الزائر و"محمود" في البيت بخفة متناهية حتى وصلا إلى حيث العلية، فمد الرجل يده
وأنزل الدراجة وبدأ بإصلاحها.. و"محمود" يحادثه ويضحك كأنه يعوض اللحظات التي يغيب
فيها عنه هذا الزائر الذي يأتي من حين لآخر عندما تخرج أمه من المنزل.. لم يستغرق
إصلاح الدراجة مع الرجل وقتاً طويلاً، وأجاد ربطها ببعضها البعض، فأركب "محمود"
عليها وساعده في قيادتها من غرفة لأخرى، ثم ما لبث أن أنزل "محمود" عنها، وأعادها
إلى مكانها في العلية.. في هذا الوقت كان صوت المفتاح الذي دار في قفل الباب
والمنبئ على أن والدة "محمود" رجعت من السوق يرن في هدوء البيت، فسارع "محمود"
إليها ليخبرها أن الرجل أصلح دراجته وساعده باللعب عليها حتى تعب من قيادتها،
فاستغربت الأمر خصوصاً وأنها تقفل الباب جيدا عندما تخرج.. طلبت الأم من ولدها
أن يخفف من حماسته لتفهم ما يود قوله، ولكنه أخذ بيدها وركض صوب العلية مشيرًا إلى
الدراجة، فوجدتها موضوعة عكس الطريقة التي وضعتها بها قبل أن تخرج من البيت..
مدت يدها وأنزلتها، ولم تصدق عيناها عندما رأت أن الدراجة قد أصلحت..
جلست على الأرض، ونظرت إلى وجه "محمود" الملون بسعادة عارمة، وسألته: "من أصلح
الدراجة؟!".
اقترب منها وقد مسح بيده الصغيرة دمعة فرت من مقلتيها: "إنه دائما يلعب معي عندما
لا تكونين في المنزل.. إنه أبي"..