فاطمة أيوب شعيتو
لم تنسَ مُحيّاه منذ ذلك التاريخ. ليس لأنّ ذاكرتها طريّة فذّة، بل لأنّه وأمثاله يصنعون الذاكرة، يصقلونها كالبلّورِ بأطيافٍ لا تغيب، ينسجون خباياها بأرواحٍ سكنتْ علياء الشمسِ وخيالاتٍ سبرَت أغوارَ الهمس.. فهؤلاء يُصبحون مع بزوغِ كلّ يوم، ولا تأفل أقمارُهم عندما يُخيّمُ الظلام. هؤلاء حقّاً لا يغيبون!
إنّه "صلاح" ذو العينين الحالمتين والبسمة الواعدة، صاحبُ السيماءِ الوقورة التي طبعت شخصَه الموزون الهادئ حيّاً، وصاحبُ الصورة اليتيمة التي اكتنزت أسرارَ الموتِ العزيز شهيداً.
كان يقصدُ منزلهم بين الحين والآخر، يحتسي كوباً من الشاي على مائدةٍ أحبّ أهلَها وتواضعهم، كتواضع البيتِ الجنوبيّ الذي نشأَ تحت سقفه ابناً بارّاً بوالدين طيّبين، تعلّقا بترابِ الأرضِ وجذور القضيّة، وقدّما الغالي والنفيسَ على طريقِ الحقّ والحريّة.
طرقَ بابَ دارهم ذاتَ مساءٍ صيفيّ. هرعت ابنةُ السنواتِ الأربع إلى فتحهِ دونَ السؤال عن هويّة الطارق. مدّت عُنقها الرقيق لتبحثَ عن صاحبِ الضربات الخجولةِ على الباب، فوجئت بـ"عمو صلاح" يُسلّم عليها مُبتسماً. انحنى صاحبُ الهامةِ الشابّة نحوَها ليخبّئ في قبضتها الصغيرة شيئاً ما. لم ترتقب طويلاً حتّى تكتشفَ الهديّة، إنها ورقةُ نقديّة قوامُها عشرُ ليرات. ورقةٌ ثمينةٌ تحوّلت إلى مصدرِ تأنيبٍ وقصاص!
"لا يصحّ أن نأخذ المالَ من زوّارنا"، هكذا قالَ والدُها. أمّا هي، فلم ترَ فيه زائراً عابراً، أو شخصاً غريباً. عينا هذا الرجل كانتا تشعّان إلفة وسلاماً، وتناغيان براءة الطفولةِ في عينيها. على جبينه قرأت سطورَ كرمٍ وعزٍّ وانتصارٍ قريبٍ قريب...
حينَ أينعتْ زهرةُ شبابها، عرفَتْ بعضاً من أسرارِ "عمو صلاح"، الشهيد الصامت الذي جاد بكلِّ ما ملك: بمالهِ للأيتام، بمقتنياته لرفاقِ دربِ المقاومة، وبجسدِه الذي عادَ إلى ترابِ الوطنِ إرْباً ذاتَ كانون(*)، مسلّماً إلى العلياءِ غلاوةَ الروح.
استحالتِ الليراتُ العشرة في قبضتها رزماتٍ من الحروفِ المضيئة، تقبضُ بها ببأسٍ على زنادِ الحقّ والحقيقة. مع كلّ حرفٍ ينبضُ مقاومة، تراهُ من البعيد يمدّ يراعها بقبسٍ من أنوارِ سيرته، ويباركُ بنجيعه أناملَها حين تخطّ على الورقِ أساطيرَ الجهادِ والشهادة.
هكذا سيبقى هؤلاء، يُثقلون بحكاياهم البهيّة ذاكرة الحياة، يصعُب نسيانهم، بل يستحيل. تزعم الألسنة المرقّطة أنهم يمضون بلا عودة، فتمزّق وعودُ السماءِ زيفَ المزاعم. فهؤلاء همُ الرجال الرجال، همُ الأحياءُ والكلُّ ذاهبٌ إلى سُبات. هؤلاء لهم أجرُهم، لهم نورُهم. هم قوافلُ الشهداء... إنّهم حتماً لا يغيبون!
(*) في الأول من كانون الثاني عام 1987، استُشهد المجاهد صلاح علي شعيتو، من مواليد بلدة الطيري، عن عمر يُناهز الـ22 عاماً، في عمليةٍ للمقاومة الإسلامية بين بلدتي بيت ياحون وبرعشيت.