نرى، بوضوح، أن النظام العالمي السابق، الذي سيطر على العالم مدّة سبعين عاماً، هو في حال تغيُّر، حيث سيطر هذا النظام على العالم وفق قاعدتين:
الأولى: فكريّة وقيميّة، والثانية: عمليّة؛ أي عسكريّة وسياسيّة.
وبرأيي، فإنّ هاتين القاعدتين، اليوم، قد تزلزلتا وثبت بطلانهما.
*ترغيب وتضليل وترهيب
في القاعدة الأولى، كان هناك ادّعاء بالتفوّق الفكري والقيمي الغربيّ على بقيّة مناطق وشعوب العالم. فقد رفعوا شعارات جذّابة ومضلّلة كشعار الحريّة، وشعار الديموقراطيّة، وشعار حقوق البشر، وشعار الدفاع عن الشعوب وعن كلّ فرد من البشر؛ وأرادوا بهذه الشعارات إثبات تفوّق نظامهم القيمي على بقيّة أنظمة العالم، وعلى الفرق الدينيّة والفكريّة وخاصّة الإسلام. وقد نجحوا في هذا الأمر.
أما القاعدة الثانية لقوّة وسيطرة الغرب على إدارة العالم فهي قضيّة الاستعانة بالقدرات السياسيّة والعسكريّة، فإذا لم تتأثّر الدول والشعوب بالنظام القِيمي (المزعوم)، وقاومت؛ كانوا يواجهونها بالضغوط السياسيّة والعسكريّة، لإرغامها على السير والتعاون معهم.
إنّ الأجهزة الإعلاميّة للغرب، التي كانت تتطوّر يوماً بعد يوم وتصبح أكثر حداثة، وتزداد قدراتها، كانت تواجه الشعوب بشكل مستمرّ بهذين العاملين. وقد استطاعوا إقناع أصحاب الفكر، المتنوّرين، وبالتدريج عامّة الناس، بهذا الأمر. ولكن اليوم، تزلزل هذان العاملان وثبت ضعفهما.
*دلائل هذا التزلزل
أ- القاعدة الفكرية والقيمية:
أي تفوّق القيم الغربيّة على قيم بقيّة الشعوب والأديان، الإسلام وغيره. فقد تزلزلت هذه القاعدة بسبب عوامل عدّة، منها:
1 - الأزمة الأخلاقيّة والمعنويّة المتزايدة في الغرب؛ وعلاماتها البارزة:
- انتشار الشعور بالخواء والفراغ.
- الإحساس بالعبثيّة، وعدم الإحساس بالأمن الروحي بين أفراد الناس، وخاصّة بين الشباب في الغرب.
- انهيار وزوال العائلة؛ فإنّ مؤسسة العائلة في الغرب قد انهارت وزالت، وهذا يترتّب عليه آثار كثيرة.
- إعادة النظر في قضيّة المرأة، التي صارت تخضع إلى المساءلة من قبل مفكّريهم ومتنوّريهم الذين يشعرون أنّ قصة الحركة النسويّة كانت فخّاً للمرأة، وهذه قصّة طويلة.
- تحويل المنكرات إلى قيم؛ على سبيل المثال: تصبح الشذوذ الجنسي قيمة، ومخالفة هذا الشذوذ تصبح أمراً غير قيمي! إنّ الفضاء الأخلاقي للغرب قد اتّجه على هذا النحو. وطبعاً هو لن يتوقّف عند هذا الحدّ، بل سيصل إلى أماكن أكثر بشاعةً وسوءاً. عندما يسقط نظام أخلاقي ما في انحدار كهذا، فلا مصير له إلّا الزوال. وهذا عامل من عوامل بطلان القيم الغربيّة.
2 - عودة الاهتمام بالدين، وهذا في الواقع ردّة فعل على العامل الأوّل. فقد تزايد، يوماً بعد يوم، وبين الفئات المتعدّدة للدول الغربيّة، الميل إلى الدين، وعلى الأخصّ حبّ الإسلام، والتوجّه نحو الإسلام، وفهم القرآن. هذا الأمر يعرفه المعنيّون جيّداً. هذا أمر آخر من الأمور التي جعلت النظام القيمي والأخلاقي للغرب يتأزّم بشكل كبير.
3 - التناقض، والتضاد العملي للغرب مع الشعارات المرفوعة، عن الحريّة، وعن الديموقراطيّة، وعن حقوق البشر وغيرها. ولكن في التطبيق، يخالفون هذه الشعارات ويخرقونها، ما جعل طرح هذه الشعارات اليوم من قبل الغربيّين في العالم أمراً مستهجناً.
فالمرّة الوحيدة التي جرى فيها استعمال القنبلة النوويّة كان من قبل أمريكا التي تتخطّى الجميع في الكلام عن حقوق البشر. كذلك ما عُرف عن سجن غوانتانامو، وسجن أبو غريب، والمعتقلات السريّة في أوروبا، كل ذلك أثبت للجميع أنّ لدى هؤلاء معتقلات سرّيّة لتعذيب الناس، واحتجازهم فيها دون محاكمة. هذا العامل الثالث أدّى إلى تأزيم النظام القيمي الذي يدّعيه الغرب.
4 - اللجوء إلى العنف، والزور، والقمع؛ وأنواع العنف، ومن بينها الحظر. إنهم أمام أعين شعوب العالم، وحين لا يستطيعون فرض سيطرتهم الثقافيّة على هذا البلد، أو ذاك، يلجأون إلى القوّة والتهديد؛ وأحياناً يعملون على إنشاء حركات إرهابيّة، وكلّ هذا قد شهده العالم في الآونة الأخيرة، وبأشكال مختلفة.
5 - إيجاد الحركات الإرهابية كالقاعدة وداعش وغيرهما. هم يعترفون أنّهم أوجدوا هذه الحركات ولدينا شواهد على هذا الأمر.
الآن، لا أحد يتقبّل من القوى الغربيّة قولها: نحن مؤيّدون لحقوق البشر، نحن داعمون للقيم الإنسانيّة. إنّ ما ورد في وثيقة الاستقلال الأمريكي منذ مئتي عام قد جرى، وبفعل التطبيق، نقضه عمليّاً.
ب- القاعدة العملية: تهاوي القدرة العسكريّة والسياسية
أمّا القاعدة الثانية فهي أيضاً قد ثبت بطلانها.
إنّ أهمّ أمر أدّى إلى بطلان هذه القاعدة هو تأسيس الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران. ففي إحدى المناطق التي كانت قابعة تحت سيطرة أمريكا، ظهر، رغماً عنها، حركة ثوريّة عظيمة بهذه الأبعاد الوجوديّة. ولم تضعف، بل، على العكس، كان هذا النظام يقوى يوماً بعد يوم؛ وإلى اليوم. إن نظام الجمهوريّة الإسلاميّة هو نظام مقتدر بكلّ معنى الكلمة، وهو مظلوم في الوقت نفسه. ولا تتنافى القدرة مع المظلوميّة؛ مثل أمير المؤمنين عليه السلام، الذي كان الحاكم القوي للنظام الإسلامي في زمنه، وفي الوقت نفسه كان أكثر المظلومين مظلوميّة. وهكذا هو حال نظام الجمهوريّة الإسلاميّة. وهذا ليس علامة على عدم القدرة. في الواقع، إنّ قوّة نظام الجمهوريّة الإسلاميّة، أمر واضح، حتى أعداؤها يعترفون بهذا الأمر.
أضف إلى ذلك الأحداث التي وقعت فيما بعد، في المنطقة، أحداث فلسطين، أحداث لبنان، وفي غزة أيضاً، هذا كلّه إنّما يدلّ على أنّ القوّة والتفوّق العسكري - السياسي للغرب قد ثبت بطلانهما بكلّ ما تعنيه هذه الكلمة.
(*) كلمة ألقاها سماحة القائد دام ظله، في مجلس خبراء القيادة، بتاريخ 1/9/2014م.