لكلّ طريقته في إحياء ليله وتمضيته. فبعض يروق له تمضيته بجانب الأهل والخلاّن يتسامرون فيه، يتبادلون ما قلّ وكثر من صنوف الحديث وأنواع الكلام. وبعض يفضّل العزلة والتفكير في شجونه وآلامه.
وإذا كان هذا هو دأبُ البعض. فإنّ للعاشقين شأن آخر. حيث يختلي كلّ حبيب بنفسه عن كلّ شيء، ليركن إلى حبيبه ويبثّه شكواه، أو لتسكن النفسُ عنده، في سكون ما ألفت مثله عند أحد.
نعم... فالعارفون بالله، العاشقون له.. لهم طريقتهم الخاصّة في إحياء ليلهم، ينسلّون من بين الناس انسلالاً رفيقاً.. طالبين وصال المحبوب فمن صلاة ومناجاة ودعاء ... إلى حنين وأنين وبكاء..
لا يذوقون النوم إلاّ هجعةً، وكيف ينامون ونداء الرحمان يقرع آذانهم: كذب من زعم أنّه يحبّني ثمّ إذا جنّ عليه الليل نام عني، أليس كلّ محبوب يحبّ خلوة قلوبهم، ومثلت عقوبتي بين أعينهم، يخاطبونني عن المشاهدة ويكلمونني عن الحضور.
ينقل ابن شهر آشوب عن طاووس قال: رأيت علي بين الحسين عليه السلام يطوف من العشاء إلى السحر ويتعبّد. فلمّا لم يره أحد رمق السماء بطرف وقال:
"إلهي غارت نجوم سماواتك، وهجعت عيون أنامك، وأبوابك مفتحات للسائلين، جئتك لتغفر لي وترحمني وتريني وجه جدّي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم في عرصات القيامة. ثمّ بكى وقال: وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك، وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاكٍ ولا بنكالك جاهل ولا لعقوبتك متعرض ولكن سوّلت لي نفسي وأعانني على ذلك سترك المرخى علي، فأنا الآن من عذابك من يستنقذني؟ وبحبل من اتصل إن قطعت حبلك عني؟ فواسوأتاه غداً من الوقوف بين يديك، إذا قيل للمخفّين جوزوا وللمثقلين حطّوا، أمع المخفين أجوز أم مع المثقلين أحط؟ ويلي كلما طال عمري كثرت خطاياي ولم أتب، أما آن لي أن أستحي من ربّي" ثم بكى وأنشأ يقول:
فأين أين رجائي ثم أين محبّتي | أتحرقني بالنار يا غاية المنى |
وما في الورى عبد جنى كجنايتي | أتيتُ بأعمال قباح ردية |
ثمّ بكى وقال: سبحانك تعصى كأنك لا ترى، وَتحلم كأنك لم تعصَ، وتتودّد إلى خلقك بحسن كأن بك الحاجة إليهم، وأنت يا سيدي الغنيّ عنهم.
ثمّ خرّ إلى الأرض ساجداً.
قال: فدنوت منه، وشلتُ برأسه ووضعته على ركبتي، وبكيت حتى جرت دموعي على خدّه، فاستوى جالساً وقال: من الذي أشغلني عن ذكر ربّي؟
فقلت: أنا طاووس يا ابنَ رسول الله. ما هذا الجزع والفزع؟ ونحن يلزمنا أن نفعل مثل هذا ونحن عاصون جانون. أبوك الحسين بن علي، وأمك فاطمة الزهراء، وجدك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: فالتفت إليّ وقال: هيهات هيهات يا طاووس: دع عنك حديث أبي وأمّي وجدّي، خلق الله الجنّة لمن أطاعه وأحسن ولو كان عبداً حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان قرشياً، أما سمعت قوله تعالى: "فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون"؟ والله لا ينفعك غداً إلاّ تقدمة تقدمها من عملٍ صالحٍ".