مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

تسابيح شهادة: بَكَتْ ألفَ وردةِ شُكر

زينب صالح

كبرنا على قصيدة محمود درويش الشهيرة التي تتحدّث عن حال أم انتظرت ولدها وعاد مستشهداً،"بكَت دمعتين ووردة، ولم تنزوي في ثياب الحداد". لكنّنا نرى اليوم نماذج من أمهات تبكي ألف وردة شكر في بساتين الرّضا والحمد، لأنّ الله اختار من قلبها ضلعاً وزرعه في الجنان.

فأيُّ إيمانٍ تكتنزه تلك النّفوس حتى تقول في أصعب لحظات عمرها عندما تعلم أنّها لن ترى وجه حبيبها ثانية: "الحمدلله يا ربّي أنّي أواسي مولاتي زينب؟".
تلك هنَّ أمّهات الشهداء اللّواتي لم يعصرهنّ الغياب خلف أبواب الجزع، فيقفن إلى جوار آباء يستكينون شوقاً ولا ينحنون، "فالله أحبّنا بأن جعلنا من عوائل الشهداء".

أن تبكي الأم لحظة علمها بأنّ ابنها البكر قد اختفى إلى الأبد خلف غيم الغياب فهذا طبيعي. تلك هي سنّة الحياة وفطرة قلب لا ينبض إلّا من أجل أولاد مهما كبروا يظلّون مدلّلي الرّوح وأجمل ما في الوجود.
لكن أن ترفع الأم يديها إلى السّماء قائلة: "يا رب، من أنا حتى كافأتني بأن عزّزتني وتوّجتني وأنعمت عليّ بأن أصبح أم شهيد؟" فهذا يتطلّب تربية للنفس والروح لا تنضج ثمارها في ليلة وضحاها.
ولأنّ الشهداء أمراء أهل الجنة، لن يختار الله سوى أمير سار على خُطى التربية التي يرضاها الله حتى يختاره ليجاوِر رسوله.

هكذا كان "الشّهيد السّيد علي مرتضى"(1) نموذجاً من خيرة الشباب، وأمّه الحاجة أم علي حنان فيتروني مرتضى، نموذجاً لامرأة صابرة تواسي مولاتها الزهراء عليها السلام، مع توجيه التحايا المفعمة بالتقدير إلى كلّ الشّهداء وعوائلهم.

هو ابنها البكر، "السّيد علي" أول من ناداها "يا أُمي"، وأوّل من مشى في بيتها زارعاً البسمات على جدران قلبين انتظراه بشغف.

ربَّته تربية إسلامية بحتة، دون أن تتناسى "زرع المحبة في قلبه لكلّ الناس على اختلاف أديانهم". حرصت على تعليمه في أفضل المدارس، "أسأل عنه دائماً هناك، ماذا يأكل، كيف يتصرّف، حتّى قيل لي ليت كلّ الأمهات يهتممن مثلك بأولادهنّ".
كبُر أمام عينيها خطوة خطوة، ترى مبادئ الإسلام التي زرعتها داخل شخصيّته تتبلور شاباً ملتزماً خلوقاً يحبّه الجميع ويحترمونه.
وهكذا، التحق السّيد علي بصفوف المقاومة "محافظاً على سريّة عمله، فلم يكن يخبرني بشيء، ولم أعرف سوى أنّ عمله إداري". ولم يتغيّر ما تعرفه الأم بعد دخول المقاومين معركة جهاد التكفيريين في سوريا، "إذ كنت عندما أرى حذاءه متّسخاً أظنّ أنّه يتنزّه مع أصدقائه في السّهل. لم يخطر في بالي يوماً أنه يقاتل".

*يوم الوداع
كان ذلك نهار الاثنين عندما أصرّ السيد علي على أمّه أن تزوره في بيته لتشرب معه القهوة الصباحية. "كان يحبّني كثيراً، وعلاقتنا مميّزة ومتينة. في ذلك النهار كنت كلّما أردت الرجوع إلى بيتي تمسّك بي قائلاً: دعيني أتزوّد منك يا أماه. وقبل أن أغادر خطر ببالي أن أضمّه كما كنت أفعل أيام كان طفلاً. ضممته، شممته، قبّلت رقبته، قلت له: ما هذا الجمال يا ولدي؟ ما هذه الشخصية؟ متى ستعود يا حبيبي؟ فقال لي: بعد يومين أو ثلاثة يا أماه. ثم رفع يدي إلى السماء قائلاً: ارفعي يدك يا أماه، أريد أن أتباهى بك أمام مولاتي زينب عليها السلام، أنت قارئة العزاء". وغادر.

*السيد علي شهيداً
بعد انتهاء السيد علي من تنظيف حرم السيدة زينب عليها السلام في الشام، صعد إلى القبّة المباركة، وأقسم أمام حضرتها أنها لن تُسبى من جديد.
وفي اليوم الثّاني شاء الله أن يلتحق "السيد علي" بعبّاس كربلاء، لينضم إلى قافلة شهداء الدفاع المقدّس. "لم أكن أعلم أين هو وماذا يفعل، لكن في لحظات استشهاده شعرت بأن فؤادي أصبح خالياً ولم أطق المكان".

في اليوم الثاني، حضر أصدقاء ولدي ليخبروني. حضّرنا الترويقة، جلسنا معاً ساعات طويلة، وكلّما أرادوا تمهيد الأمر لي كنت أستبعد ذلك لجهلي بطبيعة عمل ولدي، إلى أن قال لي أحدهم "يا أمّ علي، اذهبي وقفي تحت السماء"، فصعدت إلى السطح ورفعت يديّ إلى السماء قائلة: يا رب أنزل عليّ الصبر والسلوان. ثمّ عدت إلى البيت ليقول لي الشّاب: سنحتفل اليوم بعرس علي. فقلت له: ابني استشهد أليس كذلك؟ فأجابني: نعم. قلت: الحمدلله. وإذا بزوجته تأتي مسرعة وتقول: إليك البشرى يا أم علي! لقد استشهد علي!".

*أين سيدفن السّيد علي؟!
"قالوا لي: سنحضر الشهيد علي غداً. فأجبتهم: ولماذا تحضرونه! لقد اختار الجهاد دفاعاً عن حرم مولاته، ادفنوه إلى جوارها".
استغرب الجميع كيف تنطق أم بهذه الكلمات. كيف تقرّر أن يُدفن عزيزها في مكان لن تراه كلّما اشتاقت إليه، وكيف سيغطيه قبر لن يمتصَّ دموع حنينها إلى عينيه، لكنّ جوابها كان صريحاً مباشراً"لقد أفنيت عمري وأنا أحاول إسعاده، فهل أحرمه الآن هذه السعادة الأبدية بأن يكون مجاوراً لابنة أمير المؤمنين؟ لا والله لن أفعل ذلك! لكن خذوني حتى أُلقي عليه سلامي الأخير!".

*نداء الله أم نداء الحبيب؟
تمتصّ دموعها بصبرها، بابتسامتها المسافرة إلى أثير تلك اللحظات. كأنّ المشهد ما زال ماثلاً أمامها، وكأنّ نعش أعز من أحبّت لم يفارق ناظريها وهو متوسّد غربة عقيلة بني هاشم!
تقول: "دخلت إلى الشام الحزينة! آه لغربتك يا زينب! يا عزيزة الزهراء ما هذه الدار الخالية؟ أين زوّارك؟ أين أحباؤك! أي والله يا زينب لفى عاشور! وبدأت بالبكاء لغربة مولاتي! نسيت ولدي وانكسار فؤادي، صرت أبكي حزناً على وحدة بطلة كربلاء، نسيت أني أتيت لأودّع السّيد، حتى تذكّرت أخيراً أن حبيبي واسى غربتها بدمه وروحه، فسكن روعي ودخلت الحرم المقدّس، وإذ بهم يحملون نعش ولدي البكر ويدخلونه في وقت الصلاة!".

"أألبي نداء ربي أم أركض لعناق ولدي؟ آهٍ من الشوق يا علي! يا كحيل العينين ويا أول فرحتي في الحياة! لكن كيف أتجاهل قوله: الله أكبر، ونحن نقدّم الروح من أجل أن يبقى هذا النّداء؟

حملتُ السجدة وتوجّهت إلى مكانٍ لأصلي! تركت النعش واختليت بربي. صلّيت فريضة الظهر بالكثير من السّكون، وسبّحت تسبيحة الزّهراء، وقرأت التعقيبات، ثم توجّهت أخيراً إلى حيث النعش الموضوع إلى جوار الضّريح!
آهٍ من اللّقاء! ما إن اقتربت منه حتى وضَعَت يدي اليسرى عليه، ويدي اليمنى على أعمدة ضريح السيدة زينب وبدأت أتحدث معها ومعه: الحمدلله يا مولاتي أنّ الله اختار ولدي حتى يواسيكِ! شكراً يا ربي أني أواسي أهل البيت! يا حبيبي يا علي، هنيئاً لك الشهادة يا قرّة عيني! هنيئاً لك مجاورة السيدة زينب يا مهجة قلبي".

وتضيف الحاجة: "لم أكن أبكي في حين كان الكل يضجّ بالبكاء. لقد أنزل الله عليّ صبراً من صبر مولاتي وفصاحة من فصاحتها واتّزاناً من اتّزانها. ولماذا أبكي وقد حاز ابني مرتبة يغبطه عليها الأوّلون والآخرون؟ إنّه شعور الأم عندما يأتي ولدها بشهادة التفوّق! قلت لمولاتي: يا سيدتي، فزت بأول مادة وأنا أنتظر الفوز بموادي الثلاثة المتبقية، أي أولادي الأربعة".

*إلى كل أمهات الشهداء!
"عندما وصلت إلى حرم السيدة زينب عليها السلام استقبلتني نساء أردن أن يمسكنني خشية أن أقع. لكني قلت لهنّ إني أستطيع المشي وحدي". وتضيف: "أنا أم، لدي عاطفة جيّاشة. لم أشبع من ولدي، لم أتزوّد منه كما ينبغي، لكني لا أسمح لدمعتي أن يراها أحد".

*السيّد علي قادم مجدّداً
"مضى على زواج ولدي السيد علي ثلاثة أعوام ونيّف. ولده الصغير لم يتجاوز العامين والنصف عندما استشهد والده. عندما استشهد ابني استيقظ ابنه ليوقظ أمه قائلاً: "ماما قومي استشهد بابا". كانت زوجة الشهيد حاملاً في شهرها الثاني، والآن، نعلم أنّها ستلد بعد أشهر "السيد علي". ولدي سيعود، أراه في ولديه، وفي وجه كل شاب يحارب من أجل قضية. المهم أن لا تُسبى زينب!
 


(1) استشهد السيد علي أحمد مرتضى دفاعاً عن المقدّسات بتاريخ 10/10/2013.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع