مع الخامنئي | التبيين في نهج السيّدة الزهراء عليها السلام* تسابيح جراح | من الانفجار... وُلد عزّ لا يُقهر عمائــــــم سلكت درب الشهادة (1) مناسبة | التعبئة روح الشعب الثوريّة مجتمع | متفوّقون... رغم الحرب آخر الكلام  | إلى أحمد الصغير القويّ قيم الحياة الزوجيّة في سيرة أهل البيت عليهم السلام سيرة آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم نموذجُ الحياة الطيّبة الإمام عليّ عليه السلام مظهرُ العدالة والإصلاح برّ الوالدين في سيرة أهل البيت عليهم السلام

الوداعُ الأخير

الشهيد صادق شريف هاشم

بقلم: هناء نور الدين الموسويّ


ساد صمتٌ تخلّله حشرجاتُ بكاء، ودموعٌ تنسكب بهدوء حفرت أوديةً في وجنتَيها الناعمتَين، ونسوةٌ تعانق نسوةً مواساةً؛ هذه فقدت شهيدَها الشابّ المقاوم الجميل، وأخرى فقدت حاميها وكافلها، وتلك القابعة في صدر المجلس فقدت أباها، والجميع في حزنٍ وشجون وألم على الفراق الطويل.

• في النعش العنبريّ
يكسر الصمت الحزين قدومُ الشهيد السيّد المغوار، مرفوعاً عزيزاً، محمولاً على أكتاف الأحبّة والأصدقاء. اقتحم المجلسَ عريسُ الشّهادة، ويُسجّى النعشُ الطاهر أمام الجموع التي أحبّت الشهيد السيّد صادق. لقد أحسن والداه تسميته صادقاً، اسمٌ طابق صفاتِ الشهيد السعيد. لقد كان صادقاً في القول، والفعل، والانتماء إلى هويّة مقاومةٍ أبيّةٍ أعزّت أمّة، وانتشلتها من حضيض الهاوية والجهل والتخلّف، ورفعتها إلى أعلى مقامِ العزّة والإباء والوقوف في وجه محتلٍّ غاصبٍ أراد التنكيل والتعذيبَ ونشرَ ثقافاتٍ فاسدة. وجميعنا يعلم القضيّة.
وقف المعزّون والمحبّون لحظاتِ صمتٍ واحترام لفقده ورحيله إلى عالمٍ آخر يختلف بماهيّته عن عالمنا المادّيّ المزيّف، ويرتفع بمعنويّته إلى عالم الأبرار والشهداء، وحسُنَ أولئك رفيقاً، وشتّان ما بين ذا وذاك.
ويرقُد الفتى المجاهد صادق في نعشه العنبريّ، تزيّنه أزهارٌ وورودٌ بدت أمام ناظريّ كأنّها أقواسُ نصرٍ مرصّعةٌ بالياقوت والمرجان والعَسْجد، وينام السيّد الشهيد «صادق هاشم» نوم العارفين الذاكرين.
وكيف لا؟ وهو السيّد الهاشميّ من نسل السّادة الأطهار النّجباء. دنوتُ منه، رأيت وجهَه قمراً منيراً، عليه هيبةُ سيماء الصالحين. اقتربتُ من والدته، وهي ما زالت في عمر الزهور الجميلة. شاهدتُها بعين قلبي ملاكاً في هدوئها، وحديثها، وأدبها، وخصالها، وشمائلها. هزّني منظرُ الأمّ الصابرة النقيّة التقيّة التي استلهمت من سيّدتها زينب عليها السلام صبرَها عندما رفعت جسد أخيها الإمام الحسين عليه السلام قائلة بكلّ قوّة وشجاعة: «اللّهمّ تقبّل منّا هذا القربان». ومن منّا لم يسمع كلماتها؟

• نظرات الوداع
ها هي الأمّ الجليلة، أمّ الشهيد، تُلقي آخر نظراتها على شهيدها، فلذة كبدها، رفيق دربها، تودّعه الوداعَ الأخير.
ما أصعب هذه اللّحظات! ما أجلّ موقفها! ما أبهاها وهي تخاطب شهيدَها، وكأنّه ينظر إليها، يروي لها قصّة الشهادة التي كرّمه الله تعالى بها، ومنحه إيّاها وسام عزٍّ وشرف، ويشكر والدته شكر الحامدين المهلّلين المكبّرين. سمعتها تقول: «الله أكبر»، قلتُ في نفسي: «ما سرّ كلامها وتكبيرها؟».
دنوتُ منها أكثر فأكثر. رأيتها جلست عند رأسه تودّعه الوداع الأخير، تحضن رأسه الذي طالما قبّلته في السّرير حين كان في المهد صغيراً، تداعب وجهه الذي هو شعاعٌ من صلاة الفجر في محرابها، تمرّر يديها في خصلات شعره الشقراء، ولحيته المهيبة. سمعتها تتمتم بكلماتٍ اختصرت فيها مسافاتِ عمرها الورديّة التي رافقته في دروب حياته.
سألتُ ذاتي: «تُرى، أترتقي أمّ الشهيد مع شهيدها ارتقاء العابرين حدودَ الزمان والمكان وآفاقه؟». وكأنّي أسمع الصدى يردّد: «لقد وصلا إلى معدن العظمة».
وفجأةً، رأيتُها تنظر إليّ لأقترب من النعش المبارك، كي أُحدّق في جمال صورة شهيدها، وهي فخورةٌ بالجمال الإلهيّ الذي ألقاه الله تعالى على محيّاه. لطالما قرأتْ في دعاء السّحر: «اللّهمّ إنّي أسألك من جمالك بأجمله، وكلّ جمالك جميل، اللّهمّ إنّي أسألك بجمالك كلّه». وهذا بعضُ الجمال الذي رأته. سمعتها تتمتم بكلماتٍ سمعتها روحي، وهزّت مشاعري.

• رحلة ذكريات مع شهيدها
قلتُ في ذاتي: «نجوى، ماذا تتحدّثين مع شهيدك الحسينيّ؟». خلتُها تسترجع شريط ذكرياتها الجميلة مع شهيدها، منذ أن حملت به وأبصر نورَ الحياة، وهدهدت مهده الصغير. وعندما يبكي، تضمّه إلى صدرها، تدنيه منها؛ تارةً تُقبّله وتشمّ رائحته الطيّبة، وأخرى تُعطيه عاطفةً وحبّاً وحنيناً، وكأنّها تفتح له مسارَ حياةٍ جديدة. وهكذا، حتّى نشأ في مراحل عمره، وعيناها تراقبانه لحظةً بلحظة. علّمته القراءة والكتابة، حتّى غدا عبقريّاً، وتلا القرآن وأحاديث المعصومين عليهم السلام يافعاً طريّاً، فغدا شابّاً أَلْمعيّاً، حمل لواء العقيدة والعلم بيد، ومعول الجهاد والمقاومة بالأخرى، وبرز نجمُه قائداً كشفيّاً، وخطيباً منبريّاً، ومقاوماً حسينيّاً.
إنّها رحلتها مع وليدها. لم تكن تعلم حينها أنّها تُربّي مشروع شهيد، يعبر مع قوافل الحسين عليه السلام. لم تكن تدري أنّها تغسل ثيابه التي يفوح منها عطرُ الشهادة، وللشهادة عطرٌ لا يُدرك معناه إلّا عوائل الشهداء. وكأنّ القدرة الإلهيّة كانت تُعِدّها إعداداً خفيّاً لهذه اللحظات النورانيّة، كي تقف بقوّة وصلابة، وهي تودّع شهيدها في عمر الزهور.

• تحيّة كشفيّة
قطع حبل تأمّلاتي وأفكاري حين سمعتها تقول: «الآن أرفع لك التحيّة يا ولدي». ورفعت يدها على رأسها، وألقت التحيّة على الطريقة الكشفيّة.
لقد كان شهيدها صادق قائداً كشفيّاً مميّزاً من الطراز الأوّل، ربّى جيلاً وأفواجاً من البراعم والناشئة والشباب على حبّ المقاومة، وغذّاهم بمفاهيم كربلاء، وعشق الإمام الحسين عليه السلام، تماماً كما علّمته والدته السيّدة الجليلة نجوى، وكما علّمه والده السيّد الهاشميّ، العابد التقيّ، خادم المنبر الحسينيّ، السيّد شريف هاشم.
وها هم تلامذته القادة الكشفيّون أوفياء له، وعلى العهد ماضون. شاهدتُهم بالأمس وقد اصطفّوا لاستقباله، وأداء التحيّة لنعشه المبارك.

 
* عن الشهيد السيّد صادق شريف هاشم، الذي بقي جريحاً ستّة أشهر بعد إصابته في المستشفى، وارتقت روحه يوم الجمعة في 12 نيسان/أبريل- 2025م.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع