سماحة السيّد الشهيد هاشم صفيّ الدين (رضوان الله عليه)
قال أمير الكلام عليه السلام في نهج البلاغة : «فَهَلْ يَنْتَظِرُ أَهْلُ بَضَاضَةِ الشَّبَابِ إِلاَّ حَوَانِيَ الْهَرَمِ؟» [الخطبة 83].
إنّ مرحلة الشباب هي فترة الطاقة والهمّة التي وفّرها الله تعالى للإنسان. وهي نعمةٌ ينبغي شكر الله تعالى عليها بحسن الاستفادة منها في ما يصبو الإنسان لتحقيقه في هذه الدنيا. وهي ككلّ العطايا والمنح الإلهيّة تأتي ثمّ تنقضي، فإن أدرك ذلك واستثمر وجودها بالعقل والحكمة والتطلّع إلى الآخرة ساقته إلى كلّ خير، وإن أهملها أو صرفها في أمور سيّئة أو غير مرغوبة –دينيّاً وإنسانيّاً- يكون كمن أُعطيَ كنزاً فأهدره وبدّده دون فائدة.
لذا، فإنّ المطلوب أن يؤمن الإنسان بهذه الحقيقة، وأن يلتفت إليها ليتحكّم هو بمساره فيها. كما أنّه ليس صدفةً أنّ العظماء في التاريخ الإنسانيّ هم الذين تنبّهوا إلى هذا الأمر، فصنعوا من شبابهم فرصةً للتقدّم والرقيّ.
ولأنّ الوقت مهما طال لمرحلة الشباب فإنّه قصير لا يقرّ ولا يبقى، وهذه الحقيقة تجعلهم أمام مسؤوليّات كبيرة، منها
* أولاً: المبادرة إلى العمل
وتكون قبل فوات الأوان، وقبل فقدان هذه النعمة حين يصل الإنسان إلى الهرم والعجز، بحيث يقول عليه السلام: «وَالْعَجْزُ آفَةٌ»(1)؛ لأنّ مرحلة العجز هي ركود وتوقّف عن الفاعليّة، بل هي انحدار في القدرة والطاقة.
* ثانياً: استثمار الشباب بالطاعة
لأنّ حصيلة حياة الإنسان هي ما ينتجه لحظة القدرة، فإذا أفرغ الشابّ طاقته بما يرضي الله تعالى فصفّى نيّته، وشدّ عزمه، وقوي فعله في الخيرات يكون كمن ذخّر رصيداً كبيراً لبقيّة عمره ولآخرته، وهو الأهمّ.
يقول الإمام عليه السلام: «وَإِذَا قَوِيتَ فَاقْوَ عَلَى طَاعَةِ اللهِ، وَإِذَا ضَعُفْتَ فاضْعُفْ عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ»(2).
* ثالثاً: حُسن الاختيار
إنّ لكلّ إنسان في حياته مساراً، وكلّما أحسن تحديده واختياره ازداد توفيقاً، والعكس صحيح؛ فالخيارات السيّئة تزيد في غرقه. والنجاح أو الفشل هنا مرتبط بمصيره ودوره في الحياة، وبما له بعد الممات.
يقول عليه السلام: «فَإِذَا عَرَفْتَ ذلِكَ فَافْعَلْ كَمَا يَنْبَغِي لِمِثْلِكَ أَنْ يَفْعَلَهُ فِي صِغَرِ خَطَرِهِ، وَقِلَّةِ مَقْدِرَتِهِ، وَكَثْرَةِ عَجْزِهِ»(3).
* رابعاً: صرف الشباب في مرضاة الله تعالى
إنّ الشطط والانحراف يوجب إعراض الله تعالى عن الإنسان، خاصّة في عمر الشباب. وهذا له آثار سيّئة جدّاً على مستوى الإيمان وإشغال القلب والعقل بالشهوات والنزوات الفانية، وهو نحوٌ من أنحاء الانتحار وإزهاق النفس بالمرديات، يقول عليه السلام: «مَنْ قَصَّرَ فِي الْعَمَلِ ابْتُلِيَ بِالْهَمِّ، وَلاَ حَاجَةَ لله فِيمَنْ لَيْسَ لله فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ نَصِيبٌ»(4).
وهذا يؤدّي إلى انطواء الذات على رغباتها وإقفال أبواب الصلاح والخيرات بأيدي العاصي والمعرض عن الله تعالى، والناسي والغافل عن مسؤوليّاته تجاه مَن خلقه، ومن أعطاه نعمة الوجود والقدرة.
لذا، فإنّ الغفلة التي تطغى على الشابّ العاصي هي نوع من تسويلات الشيطان، وتحكّم الدنيا بمصيره من خلال إغوائه وإلقائه في الغرور، وهو يحسب أنّ طبيعة الدنيا والشباب تقتضي ذلك، بينما هو المسؤول أوّلاً وآخراً.
وللتنبيه إلى خطورة هذا الفهم قال عليه السلام: «الذنب في الغرور على الإنسان وليس على الدنيا: وَلَهِيَ بِمَا تَعِدُكَ مِنْ نُزُولِ الْبَلاَءِ بِجِسْمِكَ، وَالنَّقْصِ فِي قُوَّتِكَ، أَصْدَقُ وَأَوْفَى مِنْ أَنْ تَكْذِبَكَ، أَوْ تَغُرَّكَ»(5)،.
وهذا بمثابة تبرئة للدنيا من ذنب الإنسان الطائش، الذي تُمنّيه نفسه بالمعصية تحت غطاء أنّ الدنيا كذلك، وهي ليست كما يعتقد.
ولإقامة الحجّة يبيّن عليه السلام الأمر في قوله: «فَبَيْنَا هُوَ يَضْحَكُ إِلَى الدُّنْيَا وَتَضْحَكُ إِلَيْهِ فِي ظِلِّ عَيْش غَفُول، إِذْ وَطِىءَ الدَّهْرُ بِهِ حَسَكَهُ، وَنَقَضَتِ الأَيَّامُ قُوَاهُ»(6).
* الشباب فترة استحقاق
ينبغي للشابّ أن يعلم أنّ تقدّمه في السنّ سيفرض عليه المزيد من الهموم والبلاءات، وهي كفيلةٌ بإشغاله عن التركيز على الغاية والمقصد؛ فإن روّض نفسه، في مرحلة الاقتدار والقوّة، سيكون أقدر على التغلّب عليها بعدئذٍ، بينما إهمالها سيزيد من ضعفه مقابلها، وهي التي ستحدّد مصيره. وعلى هذا، فإنّ صرف الشباب نحو تحصيل الكمالات المعنويّة هو الذي سيرتقي به نحو المعالي، وهي المنجيات.
ولعلّ هذا ما أراده الإمام عليه السلام حين قال: «اطْرَحْ عَنْكَ وَارِدَاتِ الْهُمُومِ بِعَزَائِمِ الصَّبْرِ وَحُسْنِ الْيَقِينِ»(7)؛ ليضع الشابّ أمام استحقاقَين كبيرَين:
1. تقوية العزم:
ينبغي للشباب استثمار هذه الفترة بتقويّة العزم وتنميته؛ ليكون الإنسان قادراً من خلاله على الفعل، ليكون فاعلاً لا منفعلاً، فلا يستسلم للانفعالات غير مأمونة العواقب.
2. تحصيل اليقين الثابت:
الاستحقاق الثاني هو تحصيل اليقين القويّ والثابت والراسخ، الذي لا يتزحزح بسهولة أمام شوائب الفكر، ممّا ينتج إيماناً يفتح له أبواب الرحمة، ويفتح نوافذ قلبه على عالم الغيب؛ ليستمدّ منه القدرة على تخطّي المصائب بثقة. وهذا أعزّ ما يطمح إليه كلّ إنسان.
يتلخّص من كلّ ما ذُكر، أنّ مرحلة الشباب هي الأفضل لاكتساب الفضائل المعنويّة التي ترقى بالإنسان إلى مدارج الكمال الإنسانيّ، وأنّ ما يحصل عليه الشابّ خلال فترةٍ وجيزة، لا يمكن أن يحصّله بسنوات كثيرة؛ ذلك أنّ قوّتي الدفع والطاقة اللتين يمتلكهما لا تقارَن بمرحلة العجز والضعف.
(1) نهج البلاغة، الشريف الرضي، الحكمة: 4.
(2) نهج البلاغة، الشريف الرضي، الحكمة: 383.
(3) الخطبة: 270.
(4) الحكمة: 127.
(5) الخطبة: 223.
(6) الخطبة: 220.
(7) الوصيّة: 31.