سماحة السيّد الشهيد حسن نصر الله (رضوان الله عليه)
عندما اختار الإمام الخمينيّ قدس سره آخر يوم جمعة من شهر رمضان المبارك ليكون يوماً عالميّاً للقدس، كان هدفه من ذلك أن تبقى هذه القضيّة حيّة، وقويّة، وحاضرة في وجدان الأمّة وشعوب العالم. بعد رحيل الإمام قدس سره، أكّد سماحة الإمام الخامنئيّ دام ظله بقوّة ضرورة إحياء هذا اليوم.
* واقع الصراع الحاليّ
تبرز أهميّة إحياء هذه المناسبة، لأنّ القدس والمقدّسات الإسلاميّة والمسيحيّة فيها، كانت بحقّ رمز الصراع القائم منذ أكثر من سبعين عاماً حتّى الآن.
من هنا، تواجه مدينة القدس ثلاثة تحدّيات أساسيّة:
1. عدم الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان: بعد الاعتراف الأميركيّ بالقدس عاصمة للكيان الغاصب، ثمّة معركة مهمّة وهي أن لا تعترف دول العالم، وبالتحديد العربيّة والإسلاميّة منها، بهذا الأمر، وأن لا تستسلم له. وعلى الرغم من أنّ ظروف الدول العربيّة والإسلاميّة لن تسمح بالاعتراف بهذا القرار، إلّا أنّ إمكانات هذه المعركة وظروفها قويّة في بقيّة دول العالم، وقد تقبّل الكثير منها هذا الموقف، وهو ما شهدناه في الاجتماعات العامّة في هيئة الأمم المتّحدة.
المطلوب فقط أقلّ الجهد من الدول العربيّة والإسلاميّة، ومنظّمة التعاون الإسلاميّ، وجامعة الدول العربيّة، حتّى نواجه هذا القرار ونربح في هذه المعركة، والتي عنوانها: أن لا تذهب بقيّة دول العالم إلى الاعتراف بالقدس عاصمة للعدوّ الإسرائيليّ.
2. العامل الديموغرافيّ في القدس: وهو تحدّي تغيير الهويّة السكّانيّة؛ فالصهاينة منذ احتلال القدس الشرقيّة عام 1967م، أي منذ أكثر من 50 عاماً، نجحوا في إحداث تغيير ديموغرافيّ حاسم في القدس الغربيّة، وهم يسعون جاهدين لتحقيق ذلك في مدينة القدس الشرقيّة والقدس ككلّ. هذا تحدٍّ أساسيّ، إذ يعمل الكيان على إحداث مخطّطات لتغيير هويّتها السكّانيّة، من خلال ضمّ كتل استيطانيّة من الضفة الغربيّة وإلحاقها بمدينة القدس تحت عنوان القدس الكبرى، وزيادة الاستيطان، والضغط على الفلسطينيّين المقدسيّين لمغادرتها وتركها، وهذه معركة كبيرة.
3. المقدّسات في مدينة القدس: إنّ المقدّسات الموجودة في مدينة القدس، وبالأخصّ بيت المقدس وكلّ ما هو موجود داخل الحرم القدسيّ، تمثّل تحدّياً وتهديداً ومعركة.
إنّ المسؤوليّة في كلتا هاتين المعركتين: التغيير الديموغرافيّ وحماية المقّدسات في الحرم القدسيّ والأقصى، تقع على عاتق السكّان المقدسيّين العرب في القدس الشرقيّة من مسلمين ومسيحيّين؛ فالرهان الأساسيّ يقع عليهم. وهذا يعني أنّ بقاءهم في المدينة وحفاظهم على بيوتهم ومساكنهم ومتاجرهم ووجودهم السكّانيّ هناك هو المعركة الحقيقيّة التي بدأت من عام 1967م وتستمرّ إلى هذا اليوم.
* حقائق مغايرة
بعد مرور أكثر من 50 عاماً، وعلى الرغم من مشاريع الاستيطان، وبناء الشقق، وضمّ الكتل، والضغط على الفلسطينيّين، وسلبهم حقوقهم المدنيّة والأمن والأمان، وهدم منازلهم بحجج متنوّعة، وفقدان فرص العمل، إلّا أنّ حكومة العدوّ عجزت عن إيجاد تغيير حاسم في البنى السكّانيّة للقدس، وخصوصاً في القدس الشرقيّة، لسببين أساسيّين:
1. الصمود والثبات
مع كلّ عوامل الضغط والحرمان والظلم، لا يزال ثمّة مئات الآلاف من العرب الفلسطينيّين والذين لم يطالبوا بالجنسيّة الإسرائيليّة يسكنون في القدس. وبحمد الله، فإنّ أعدادهم تتزايد، بفعل الصمود والثبات والتزاوج. إذاً، إنّ بقاءهم هناك وصمودهم يمنعان تغيير هويّة المدينة.
2. الدفاع عن المقدّسات
لقد بات هؤلاء بفضل سموّهم وصمودهم حرّاس الأقصى، وهو ما يعترف به الإسرائيليّون أنفسهم. يقوم المقدسيّون من الرجال والنساء والصغار والكبار، نيابةً عن الأمّة الإسلاميّة كلّها، بالدفاع عن الحرم القدسيّ والمسجد الأقصى.
من واجب بقيّة الناس والمسلمين في العالم أن يساعدوا هؤلاء المقدسيّين. الأمر ببساطة يحتاج إلى أموال. ينبغي إنفاق المال حتّى نساعدهم على البقاء في أراضيهم وبيوتهم، وأن لا يستسلموا للضغوط الاقتصاديّة والمعيشيّة. مع الأسف الشديد، بعض أثرياء العرب، بدل أن يساعدوا المقدسيّين ليثبتوا ويصمدوا، نراهم يشترون البيوت منهم، وبأموال طائلة، بحجّة جوار هذه البيوت للحرم القدسيّ، ثمّ يبيعونها للإسرائيليّين!
* خطّ الدفاع الأوّل
اليوم، هذه هي مقدّمة الجبهة، وهذا هو خطّ الدفاع الأوّل عن المسجد الأقصى والمقدّسات وهويّة المدينة. من يريد أن يقدّم مالاً لمساعدة المقدسيّين على التمسّك ببيوتهم، يستطيع أن يبحث عن الوسائل الموثوقة، ويمكن لهذا المال أن يصل. ولكنّ الأمر الأهمّ هو أنّ المقدسييّن أنفسهم لديهم إيمان وإرادة وعزم وصبر واستعداد للبقاء والتضحية والتحمّل، لكن على بقيّة الناس في العالمين العربيّ والإسلاميّ أن يساعدوهم، ولو بالحدّ الأدنى، على البقاء والصمود في هذه المدينة لكسب هذه المعركة.
أمّا في الجانب المعنويّ والإعلاميّ، والثقافيّ، والسياسيّ، فيجب أن نكرّس من جديد هذه القضيّة كأولويّة على مستوى الأمّة، والجميع يستطيع أن يبذل جهوداً في هذا المجال. ثمّة إجماع واتّفاق حول قضيّة القدس؛ فليعمل كلّ واحد منّا من موقعه وبإمكاناته ومقدّراته لخدمة هذه القضيّة على كلّ صعيد.
*كلمة الأمين العام لحزب الله سماحة السيّد الشهيد حسن نصر الله (رضوان الله عليه) في مهرجان يوم القدس العالميّ في بلدة مارون الراس 8-6-2018م.