نسرين إدريس قازان
الشهيد على طريق القدس علي إبراهيم ناصر الدين "ملاك"
اسم الأمّ: نخلة ملحم.
محلّ الولادة وتاريخها: الهرمل 1/5/ 1975م.
الوضع العائليّ: متأهّل وله ستّة أولاد.
محلّ الاستشهاد وتاريخه: سوريا 27/3/2024م.
بين الدخان الأسود وأصوات الرصاص وضجيج الناس، وقفَ مسلّح من ميليشيا القوّات اللبنانيّة أمام والده يطلب إليه أن يعطيه لأمّه، طفل في الشهر الثامن من عمره، أخذته أمّه وركضت فيه قبل أن يقتلوهم جميعاً. ومن طرف عينها رأت ظهر زوجها المقتاد إلى التحقيق، بل إلى جهة مجهولة حتّى الآن.
من تلّ الزعتر إلى الهرمل، كان الخوف يرسم طريقها، اجتازت الحواجز والمسلّحين، فيما طفلها الوحيد يبكي بين ذراعيها، حتّى وصلت وهي على آخر رمق، لتبدأ حياة جديدة كُتبت بحبر الصبر.
* متعدّد المهن
في بيت عمّه في الهرمل قضى عليّ طفولته الأولى، فتىً ذكيّاً جدّاً، يخترع أيّ شيء يخطر له، وكلّما تعطّلت لعبة، صنع منها لعبة أخرى، وكم حلم بأن يصبح مهندساً ميكانيكيّاً للطائرات، ذلك لم يكن صعباً عليه، ولكنّ الأيّام كان لها مخطّط آخر له.
عندما بلغ سنّ الخامسة، جاءت به أمّه إلى بعلبك، وأدخلته مدرسة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف الداخليّة، وتوجّهت إلى بيروت لتسكن في بيت أهلها، ولتعمل من أجل إعالة وحيدها، وفي آخر الأسبوع، يكون اللقاء العابق بالشوق.
كان الصيف يملأ قلبه حبّاً واستقراراً في بيروت، وقد اختارت له أمّه في كلّ عطلة مهنة، فتعطي صاحب العمل خفية عن ابنها مالاً ليعطيه إيّاه، مقابل أن يهتمّ به ويعلّمه، والغريب أنّه خلال شهر كان يتقن العمل ببراعة بشكلٍ يذهل أربابه، فتعلّم الحدادة، والنجارة، و"لفّ الترانسات"، وإصلاح السيّارات.
بعد أن بلغ الخامسة عشرة من عمره، استقرّ عليّ في بيروت مع أمّه، وأخبرها أنّه يريد العمل، فقد أرهق قلبه تعبها المستمرّ من أجله، فتعلّم مهنة الحلاقة للرجال، ثمّ أخضعته نقابة الحلّاقين لامتحان، وقد نجح فيه وحصل على مقصّ كهديّة، فأخذه وقال لأعضاء النقابة إنّه سيهديه لمن علّمه المهنة، فتعلّم منه الحاضرون الوفاء.
* المجاهد المربّي
تزوّج عليّ ورُزق بستّة أولادٍ، إذ كان محبّاً للعائلة وتوّاقاً لبناء ما حرمته الأيّام منه، أسرة كبيرة تملأ أركان البيت بالضجيج الباعث على الفرح والفخر.
في عام 2006م، اندلعت حرب تمّوز، وكان عليّ قد استقرّ في منزله، فبقي هناك مع المجاهدين، وكانت تلك الحرب انطلاقته الرسميّة مع حزب الله، بعد أن أمضى سنوات في التعبئة العامّة. وما أن وضعت الحرب أوزارها، حتّى التحق بالدورات العسكريّة التخصصيّة، وبدأت غيباته تطول عن المنزل، فاضطرّ لإقفال محلّه الخاصّ، والتفرّغ كليّاً لعمل المقاومة؛ فتولّى بدايةً العمل الاجتماعيّ حيث يقطن، وكم كان هذا العمل لائقاً به، فبذل جهداً لإخراج الشباب من الشارع وحفظهم من أيّ سوء، من خلال استقطابهم إلى الحزب، وعمل على ترسيخ القيم الأخلاقيّة والدينيّة في نفوسهم، زارعاً فيهم الحياء والحشمة. وقد ربّى جيلاً تعبويّاً قاعدته الأساسيّة في الحياة هي الحلال والحرام، فتتلمذ على يديه القويّتين جيل من المجاهدين، واستشهد الكثير منهم في حرب الدفاع عن المقدّسات.
* رسالة إلى الأمين
عندما اندلعت الحرب في سوريا، التحق فيها الشهيد سرّاً، إذ إنّه لم يخبر أحداً بذلك. ولمّا كان يتحضّر لمرافقة غيره من المجاهدين الذاهبين إلى سوريا، التقى بأحد أصدقائه، فرمقه الشهيد بنظرة تطلب منه أن لا يتفوّه بأيّ كلمة، وإذ بالمسؤول هناك يقول بصوتٍ عالٍ: "فليقف جانباً من هو وحيد والديه"!
لم تفلح محاولاته، إذ سرعان ما مُنع من الذهاب إلى سوريا، فما كان من أمّه إلّا أن كتبت رسالة لسماحة السيّد الشهيد حسن نصر الله (رضوان الله تعالى عليه) تستأذنه أن يسمح لابنها بالمشاركة في الحرب، فأُعطي استثناءً خاصّاً، لأنّه وحيد بلا إخوة وأخوات فضلاً عن أنّه يتيمُ الأب.
* "ملاك الهضبة"
منذ بداية تلك الحرب، أصبح تواجده أغلب الوقت في سوريا، وقد شارك في الكثير من المعارك هناك، من حمص ونبّل والزهراء والزبداني إلى تدمر، فحلب والبوكمال، حتّى نهر الفرات، إذ قاتل تحت قيادة أشجع القادة، وعُرف بشجاعته وبأسه وإقدامه. كان قنّاصاً بارعاً، فلم يستطع أحد الفرار من رصاصه الصائب العارف لوجهته، وقد حصل بين رفاقه على الكثير من الألقاب أبرزها "ملاك الهضبة". وكان كلّما تقدّم أمام مجموعته، خاطبهم بكلامٍ يزيدهم عزماً ويقيناً، فيندفعون بروحيّة عالية إلى الصفوف الأماميّة، فمنهم من قضى نحبه، وظلّ هو منتظراً مستبشراً بمن سبقه.
كلّ ذلك إلى جانب تولّيه مسؤوليّة منطقة الأجنحة الخمسة، فكان يتابع شؤون الشباب هناك على جميع الأصعدة، ويؤكّد على تغذية الجانب الروحيّ والمعنويّ فيهم لأنّه أساس القوّة في الميدان. وإذا ما سألنا الفتية والشباب في محيط عمله عنه، سيخبروننا بأنّه كان بمثابة والدهم، كيف لا وفي كلّ مرة كان يخبرهم بأنّهم أبناؤه، الذين عوّضه الله بهم في الدنيا بعد فقدان ولده إبراهيم، الذي توفّي إثر حادث أليم في عام 2022م.
* بيت الأحلام
بعد الكثير من الغياب والفراق، أراد الشهيد بناء بيت أحلامه في قرية زبود. كان مهندساً بالفطرة، وقد لامست يداه كلّ ركن من أرجائه، حتّى بنت بيت الأحلام والراحة لأبنائه وزوجته وأمّه، التي لطالما أراد أن يعوّضها عن تلك الأيّام القاسية المليئة بالبُعد والتعب.
عاش أبو إبراهيم كما أوصى أمير المؤمنين عليه السلام؛ عمل للدنيا كما لو أنّه سيعيش أبداً، وجهّز لآخرته كما لو أنّه في كلّ يوم يرتقب المنيّة. كان الأمر أشبه بالحلم، يدرك الجميع أنّ رجلاً مثله لا تليق فيه ميتة الفراش، وهو الذي تعب منه النزال، فكانت ليلة مظلمة عنيفة، شنّت فيها طائرات "الشيطان الأكبر" غارة على سوريا فارتقى شهيداً، صائماً عابداً، مواسياً لخير خلقه، فذهب إلى جوار ربّه روحاً ثابتة على ما أمرها الله به. وبقي جسده ها هنا في الصالحيّة بعد غارة غادرة طالت أبدانهم ورفاقه بالأسماء، جعلت من جسده محطّة للجراح والمواساة على نهر الفرات.
وللشهيد بعض الكلمات الصادقة هديّة من أفراد عائلته: "نغبطك على شهادتك، وهنيئاً لك لقاءك بحبيبك ومن تولّاهم الله في كنفه ورحمته، ونشكرك على حُسن صنيعك في دار الدنيا والبلاء، راجين من الله أن نختم حياتنا بما ختمت به حياتك وأن نلقاك بحضور صاحب الأمر والعزاء، وتحت رايةٍ لطالما قدّمت لها التحيّة وعهود الثبات والوفاء".