لقاء مع الجريح المجاهد محمّد حسني عثمان (أبو حيدر)
حنان الموسويّ
طهّرنا مدينة «السحل» واتّجهنا نحو الجبال المحيطة بها حيث تمركز الدواعش بعد انهزامهم. سريعاً بدأت الصواريخ والقذائف تنهمر فوق رؤوسنا كالحمم. كنّا مئة مجاهدٍ في مرمى نيرانهم، فأصيب بعضنا إصاباتٍ طفيفة. تفقّدت الإخوان في أعلى التلّة وعدت إلى نقطة التثبيت، وإذ بقذيفة هاون عيار 60 ملم تصيب جسدي بشظاياها، فاخترقت دماغي وطرحتني أرضاً.
* نِعم القدوة
شُغفتُ بكشّافة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف فانتسبت إليها في الثامنة من عمري، وانضممت لاحقاً إلى صفوف التعبويّين وخضعت لبعض الدورات العسكريّة. تأثّري بإخوتي الذين يكبروني سنَّاً دفعني للاقتداء بهم، فشاركت في مرابطات عديدة في الجنوب، إلى أن تعاقدت عام 2005م. وأثناء عدوان تمّوز 2006م تشرفت بالمشاركة في الحراسة وفي التصدّي للإنزال الإسرائيليّ في بعلبك.
* هجوم ودفاع
منذ بداية حرب الدفاع عن المقدّسات في سوريا، وتلبيةً لنداء أمين عام حزب الله (حفظه الله)، كنت من بين المجاهدين الذين شاركوا في المعارك. وبعد حصار مقام السيّدة زينب عليها السلام، تشرّفت بالدفاع عن مقامها مع المجاهدين. حرّرنا مناطق عدّة ثمّ انتقلنا إلى ريف القصير؛ بسبب سيطرة الدواعش عليها، فقاتلناهم واستطعنا بحمد الله تحرير قرى سوريّة عدّة يسكنها مواطنون لبنانيّون، عانوا الحصار وسفك الدماء، وصولاً إلى مدينة القصير، حيث كانت المعركة الحاسمة.
* مركز الانطلاق
كانت مدينة القصــيــر محـصّنــة ومجهّزة بالأنفـــاق والمخابئ؛ لكونها مركز انطلاقٍ لكلّ عمليّات التكفيريّين تُجاه القلمون والقرى المحيطة. قُسّمت قوّاتنا إلى ثــلاث مجموعـــات، كلّما تقدّمت مجموعة تبعتها أخرى، وكنت ضمن المجموعة الثالثة التي وصلت إلى عمق المدينة. أعاق التكفيريّون الهجوم، حفروا الخنادق واستهدفوا المجاهدين بمختلف أنواع الأسلحة، وقد أذهلهم تصميمنا على تحرير المدينة مهما غلت التضحيات.
أصابت ساعدي طلقة قنّاصٍ، لكنّها لم تثنِني عن متابعة الهجوم. وقد واصلتُ القتال حتّى تحرير المدينة رغم إصرار بعض الإخوة على مغادرتي. وصلنا إلى منطقة «السحل» وهي منطقة جبليّة فيها بعض السهول واسعة النطاق، مسيّجة بالفِخاخ والعبوات، وبعد تحرير القرية ومحيطها وصلنا إلى المنطقة الجبليّة، التي كانت شبه جرداء.
* غروبٌ محموم
وصلنا إلى المنطقة الجبليّة قبيل الغروب، وقد توجّب تحريرها خلال 25 يوماً، فكانت المعارك متواصلة لتحقيق الهدف، وكنت مسؤولاً عن مجموعة الهجوم. دأب التكفيريّون على استغلال هذا التوقيت إمّا للهجوم أو للقصف العنيف ثمّ الانسحاب. طُلب منّي التثبيت حتّى صباح اليوم التالي، فوزّعت مواقع الإخوة أعلى التلّة، وعدت إلى موقع التثبيت. مرّت دقائق عدّة وبدأ القصف العنيف، عندها رفعنا الجهوزيّة لأكثر من مئة مجاهد استعداداً لهجوم متوقّع، ورددنا على مصادر النيران رغم كتل اللهب وقذائف الهاون التي تتساقط علينا بغزارة. أصيب عدد من الإخوة إصابات طفيفة، إلّا أنّ شظايا قذيفة هاون 60 ملم اخترقت كامل جسدي، واستقرّت إحداها في رأسي، وسرعان ما فقدت الوعي.
* قدرةٌ عظيمة
عانيت نزيفاً حادّاً في الرأس، فأجرى المسعفون الإسعافات الأوليّة، بعدها نُقلت إلى مستشفى القصير ومنها إلى الجامعة الأميركيّة مروراً بمحطّات عدّة. لكن نبضي الضعيف دفع الأطبّاء إلى الظنّ باقتراب أجلي، لكنّهم سرعان ما بدؤوا بانتزاع الشظايا وسيطروا على النزيف. رغم أنّ الشظيّة استقرت في دماغي، لكنّها لم تقتلني، وكانت مشيئة الله أن أبقى على قيد الحياة، فمكثت في المستشفى أربعة أشهر، كابدتُ خلالها أوجاعاً حادّة في الرأس، وأصبتُ بفقدان الذاكرة وعدم القدرة على النطق.
* متابعةٌ حثيثة
كان وقع خبر إصابتي ثقيلاً على قلوب أفراد عائلتي، ولكن ما كان منهم سوى الرضى بقضاء الله. غادرت المستشفى على كرسيٍّ متحرّك، فالخدر الذي أصاب جانبي الأيمن لازمني مدّةً طويلة.
تكفّلت مؤسّسة الجرحى في بيروت بالإشراف على خطّة العلاج. كانت جلسات العلاج مكثّفة في المركز وفي المنزل، فبدأت أخطو خطوةً تلو أخرى، وصولاً إلى السير بواسطة آلة المشي. استعدت القدرة على النطق تدريجيّاً، وتفوّهت ببعض الكلمات. بقيت في بيروت ثلاث سنوات متواصلة، أتلقّى خلالها العلاج التأهيليّ، لأعود من بعدها إلى قريتي حيث تابعت علاجي الفيزيائيّ وعلاج النطق في مركز المؤسّسة في بعلبك.
* اُستجيبت دعوتي
حين عدت إلى بعلبك، أصررت على زيارة مقام السيّدة خولة عليها السلام رغم سوء حالتي، فرافقني أخي الأصغر إلى هناك. توكّأتُ على كتفه وانطلقت سيراً بقدميّ الخائرتَين وخلفي مواجعي. كان ذلك يوم الجمعة، وصلنا مع أذان الظهر، فوجدت صعوبةً في تذكّر تفاصيل الصلاة ما خلا سورة الفاتحة. انزعجتُ بشدّة وضاق قلبي، واحتضنت الضريح الشريف بتلك اللوعة، وراحت دموعي تنهمر وأنا أتوجّه بالدعاء إلى السيّدة الجليلة عليها السلام، وطلبي الوحيد الصلاة فقط ولا شيء غيرها! أقسمت عليها بحرمة أبي الشهداء عليه السلام أن تساعدني. غادرتُ الضريح، ومنذ ذاك الحين بدأت أتذكّر كيفيّة أداء الصلاة تدريجيّاً.
* الشهيد الحيّ
تزوّجت بعد الإصابة من رفيقة دربي، التي تخلّت عن الدنيا لتواكبني وتعينني، جزاها الله عنّي خير الجزاء. رُزقنا طفلين، حيدر وحنين، اللذين خفّفا من آلامي وبهما تزيّنت دنياي.
تغيّرت نظرتي إلى الحياة وإلى دوري فيها، وبتُ أشعر الآن أنّي رُددت إليها لأؤدّي دوراً آخر. أجاهد بكلّ طاقتي بمختلف أشكال الجهاد من خلال الجلسات الثقافيّة التوعويّة والعسكريّة وجهاد التبيين. كما أنّ لقب «الشهيد الحيّ»، الذي يلقّبني به الناس، يُلقي على عاتقي مسؤوليّة كبيرة. أسأل الله أن يثبّتنا على دينه وعلى خطّ ولاية الفقيه، ونحن على أتمّ الجهوزيّة للتضحية بكلّ ما نملك وللشهادة في سبيل الله. لقد منّ سبحانه عليّ رغم الجراح والآلام بالقوّة والثبات أكثر على الإيمان، وأرجوه أن يديم علينا نعمة البقاء على نهج أهل البيت عليهم السلام تحت راية المقاومة، فأنا وكلّ عائلتي وأطفالي فداء لنهج حزب الله.
اسم الجريح: محمّد حسني عثمان.
الاسم الجهاديّ: أبو حيدر.
تاريخ الولادة: 14/9/1984م.
مكان الإصابة وتاريخها: السحل، 2014م.
نوع الإصابة: شظايا في الدماغ والجسم.