نور روح الله
إنّ الحديث عن أمير المؤمنين وسيّد البلاغة والبيان الإمام عليّ عليه السلام، فضلاً عن فضائله ومناقبه وما تحدّث وقام به أمر يطول ولا حدود له، فهو عليه السلام أنوار تنير للبشريّة الدرب على مرّ العصور. وها هو حفيد من أحفاده يتطرّق إلى بعض تلك الفضائل والمناقب.
* ما قيمة هذه النعل؟
إنّنا نعجز عن ذكر الأبعاد المعنويّة لأمير المؤمنين عليه السلام، فلا نتمكّن من قول جملة واحدة مطابقة للواقع، لكن يمكن التحدّث حول بعض الأبعاد المادّيّة والاجتماعيّة. لاحظوا أحوال من كان خليفةً للمسلمين وبيده زمام أمور الدولة، فبرغم كونه خليفةً ويصلّي الجمعة بالمسلمين، إلّا أنّه لا يمتلك ملابسَ كثيرة، وكما يُنقل عنه أنّه صعد المنبر لتحريك الملابس التي يلبسها كي تجفّ لعدم امتلاكه غيرها. وكانت له نعل يخصفها بنفسه، ولما سُئِل عن ذلك قال: ما قيمة هذه النعل؟ فيقول عليه السلام: «واللَّه لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِمْرَتِكُمْ إِلَّا أَنْ أُقِيمَ حَقّاً أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلاً»(1). أيّ خليفة في الأرض يشبه وضعه وضع أمير المؤمنين عليه السلام؟ لقد كان الإمام مظلوماً حقّاً(2).
* متى رأيت أنّني آكل صُنفين؟
يُنقل أنّه كان ضيفاً عند أمّ كلثوم، في الليلة التي اعتُدي عليه فيها، وجاءته بالحليب وبملح وبقطعة خبز، فقال: متى رأيت أنّني آكل إدامين (صُنفين)؟ أرادت أن تأخذ الملح، فقال: بل خذي الحليب. هذا وضع الحاكم الذي تصل مساحة مملكته إلى ذلك القدر. هذه هي الحكومة الإسلاميّة. ومن جانب آخر، إنّ ابن ملجم هذا - لعنة الله عليه- الذي اغتاله، واعتقلوه، عامله الإمام عليه السلام بعطف، وأوصى بأن يطعموه من طعامه، وقال: «أَلَا لَا تَقْتُلُنَّ بِي إِلَّا قَاتِلِي، انْظُرُوا إِذَا أَنَا مِتُّ مِنْ ضَرْبَتِه هَذِه فَاضْرِبُوه ضَرْبَةً بِضَرْبَةٍ، ولَا تُمَثِّلُوا بِالرَّجُلِ»(3). كونوا على ثقة بأنه كان سيعفو عنه(4).
* قلب إلهيّ
«لضربة عليّ لعمرو يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين»(5)، وليست هذه لأنّ كلّ الكفر نازلَ كلَّ الإسلام، بل لأنّها كانت هذه الفضيلة. فلو فرضنا أنّ أحداً غير أمير المؤمنين عليه السلام ضرب هذه الضربة وأنزل هذه الهزيمة، لما كانت لها هذه الفضيلة. كانت هذه الضربة قد نبعت من روح أمير المؤمنين عليه السلام، وكانت فضيلة الأيّام التي ضرب فيها أسمى من كلّ الأيام؛ لأنّ قلبَه كان قلباً إلهيّاً لم يَجِدْ غير الله إليه سبيلاً. فالضربة التي تنبع من هذا القلب والتصميم الذي تُشرق منه قيمته أفضل من كلّ ما في هذا العالم على ما تفضّل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم(6).
* أعظم المصائب
إنّ أعظم نازلة حلّت بالإسلام هي سلب أمير المؤمنين عليه السلام حكومته، وعلينا أن نتجلبب بالحزن على تلك النازلة أكثر من الحزن على واقعة كربلاء، فالمصيبة التي حلّت بأمير المؤمنين عليه السلام وبالإسلام، أجلّ وأشدّ من تلك المصيبة التي حلّت بسيّد الشهداء عليه السلام، فهي أعظم المصائب التي حُرم الناس بسببها من إدراك المعنى الحقيقيّ للإسلام، الذي يعيش اليوم حالة من الغموض والإبهام، وكذلك معنى الحكومة الإسلاميّة، وحقيقة الأهداف التي يسعى إليها الإسلام، وماهيّة برامجه في الحكم.
إنّ سقوط حكومة أمير المؤمنين عليه السلام، والتي ناهز عمرها الخمسة أعوام، ومع كلّ ما رافقها من مشاكل ومتاعب، ومع كلّ ما تحمّله الإمام عليه السلام من معاناة، يعدّ مصاباً عظيماً إذا نظرنا إليه من جانب. كما أنّ تلك الأعوام الخمسة تحتّم على المسلمين الاحتفاء بها مدى الدهر، أي الاحتفاء بحكومة يتمنّى رئيسها والحاكم فيها- أمير المؤمنين عليه السلام- الموت لاحتمال تعرّض امرأة معاهدة لسرقة خلخالها في أحد أطراف بلاده(7)؛ لأنّها كانت حكومة من أجل العدل، ومن أجل الله(8).
* حكومة عادلة
كان أمير المؤمنين عليه السلام حاكماً على مساحة واسعة تضمّ العديد من البلدان، بدءاً من الحجاز وحتّى مصر وإيران والعراق وسوريا وسائر الأماكن. وقد نقل لنا التأريخ كيف أنّ القاضي الذي عيّنه الإمام عليه السلام حينما أراد ان يقضي في قضيّة دعوى اليهوديّ عليه واتّهامه له، فإنّه أرسل في طلب أمير المؤمنين عليه السلام وقد لبّى الإمام ذلك الاستدعاء، وحضر بين يديه ووقف مع اليهوديّ جنباً إلى جنب وقد استُجوب، فأصدر القاضي حكماً لصالح اليهوديّ وفي غير صالح أمير المؤمنين عليه السلام، الذي كان يمثّل الحكومة آنذاك(9). إنّ وضعاً حكوميّاً كهذا لا يمكن أن نتوقّع حصوله في مكان آخر، ونحن نسعى لإقامة حكومة كهذه، حكومة عادلة تحبّ رعيّتها(10).
* كامل الأوصاف
الإمام عليّ عليه السلام هو التجلّي العظيم لله(11). هذا العظيم يمتاز بشخصيّة ذات أبعاد كثيرة، ومظهر لاسم الجمع الإلهيّ الذي يحوي جميع الأسماء والصفات، التي ظهرت بواسطة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم. وإنّ أبعاده الخفيّة هي أكثر من تلك الظاهرة، وإنّها نفسها التي توصّل إليها البشر ويتوصّلون إليها، وقد اجتمعت في شخصيّة واحدة ورجل واحد يمتلك جميع الأوصاف والكمالات(12).
1- نهج البلاغة، تحقيق صبحي صالح، ص 76.
2- صحيفة الإمام، ج 20، ص 406.
3- نهج البلاغة، مصدر سابق، ص 422.
4- صحيفة الإمام، ج 11، ص 311.
5- عوالي اللآلي، ابن أبي جمهور الأحسائي، ج 4، ص 86.
6- صحيفة الإمام، ج 8، ص 385.
7- يقول أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة الجهاد: «قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ والأُخْرَى الْمُعَاهِدَةِ فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وقُلُبَهَا وقَلَائِدَهَا ورُعُثَهَا... فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِه مَلُوماً بَلْ كَانَ بِه عِنْدِي جَدِيراً». (نهج البلاغة، ص 70).
8- المصدر نفسه، ج 2، ص 339.
9- عن إبراهيم بن يزيد التيمي عن أبيه قال: وجد علي بن أبي طالب درعاً له عند يهودي التقطها فعرفها فقال: درعي سقطت عن جمل لي أورق، فقال اليهودي: درعي وفي يدي، ثم قال له اليهودي: بيني وبينك قاضي المسلمين، فأتوا شريحاً، قال شريح: ما تطلب يا أمير المؤمنين؟ قال: درعي 10- سقطت عن جمل لي أورق فالتقطها هذا اليهودي، فقال شريح: ما تقول يا يهودي؟ قال: درعي وفي يدي، فقال شريح : صدقت والله يا أمير المؤمنين إنها لدرعك ولكن لا بد من شاهدين، فقال اليهودي: أمير المؤمنين جاء معي إلى قاضي المسلمين فقضى عليه ورضي! صدقت والله يا أمير 11- المؤمنين، إنها لدرعك سقطت عن جمل لك والتقطتها، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فوهبها له علي وأجازه بسبعمئة، ولم يزل معه حتى قتل يوم صفين. (كنز العمال، الهندي، ج 7، ص 27)
12- صحيفة الإمام، ج 6، ص 51-52.
13- تفسير آية البسملة، الإمام الخمينيّ قدس سره، ص 31.
14- منهجيّة الثورة الإسلاميّة، ص 117.