لقد رأينا التعبئة في ميدان العمل منذ البداية إلى الآن، في جميع الميادين، وكلّها ميادين عمل، فالتعبئة هي فكر ومنطق ومنظومة فكريّة. والسبب في أنّنا جميعنا نرى انجذاب المتعلّمين والنخب والنوابغ في الاختصاصات المختلفة إلى التعبئة؛ هو أنّها ليست مجرّد حركة حماسيّة، ثمّة منطق قويّ يقف خلف التعبئة، وعندما يترافق هذا المنطق والعلم مع العمل؛ يحدث هذا الصخب، ويخلق هذه الحوادث العجيبة. ما هو أساس هذا الفكر؟
* الركيزة الفكريّة الأولى: الإحساس بالمسؤوليّة
أساس هذا الفكر هو الاعتقاد بمسؤوليّة الإنسان؛ الإنسان موجود مسؤول. والنقطة المقابلة لهذا الفكر هي عدم الإحساس بالمسؤوليّة تحت عنوان وشعار: "دع عنك ذلك، تمتّع بحياتك، اهتمّ بنفسك". إنّ الأساس الفكريّ للتعبئة هو هذه المسؤوليّة والوظيفة الإلهيّة، والتي أقول إنّ لها أسساً ومباني دينيّة متينة. ليس المقصود من المسؤوليّة هنا المسؤوليّة أمام النفس والعائلة والأقارب -فهذه المسؤوليّة موجودة- بل أمام حوادث الحياة، ومصير العالم والبلد والمجتمع، سواءٌ المسلمين أو غير المسلمين؛ أي اذهب وعرّض نفسك للخطر وضع روحك على كفّيك في ميادين الخطر. من أجل إنقاذ المستضعفين، ومعنى هذا هو تلك المسؤوليّة نفسها، وهذا ما يشير إليه الحديث المشهور: "من أصبح ولم يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم"(1).
* ولنا في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسوة
لقد كان الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يدعو الله ويتضرّع إليه: "اللهم اهدِ قومي"(2)؛ وقومه كانوا أولئك الأشخاص أنفسهم الذين كانوا يؤذونه، ويطردونه، ويهدّدونه بالقتل، ويجلبون له المتاعب، ومع ذلك كان يطلب من الله لهم الخلاص والشفاء والهداية! هذا هو الإحساس بالمسؤوليّة. هذه هي الركيزة الأساسيّة لحركة التعبئة: الإحساس بالمسؤوليّة الإلهيّة.
* الركيزة الفكريّة الثانية: البصيرة والرؤية البيّنة
ماذا تعني البصيرة؟ تعني معرفة الزمان، والحاجات، والأولويّات، والعدوّ، والصديق، والوسيلة التي ينبغي استخدامها في مواجهة العدوّ. البصيرة هي هذه المعارف. لا يمكن المواجهة دوماً بسلاح واحد، ولا يمكن الورود إلى كلّ الميادين بسلاح واحد. علينا أن نعرف أيّ سلاح نستخدم، وأين هو العدوّ. لقد قلت مراراً، إنّ مَثَل الذين لا يمتلكون البصيرة كمَثَل الذين يريدون توجيه ضربة للعدوّ في الضباب الكثيف، والغبار الغليظ؛ فإنّهم لا يعرفون أين هو العدوّ، فمن أوّل شروط ومقدّمات الحرب لدى الجيوش: الاستطلاع؛ أن تذهب وتستطلع مكان العدوّ. فلو ذهبت من دون استطلاع؛ قد تضرب مكاناً يوجد فيه الصديق، قد تضرب شخصاً ليس بعدوّ لك، وتكون بذلك قد قدّمت العون للعدوّ. إن لم تكن البصيرة موجودة قد يحصل هذا؛ حيث جاء في الحديث الشريف: "العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس"(3).
* الإمام قدس سره: مؤسّس التعبئة ومبيّن الاتّجاه
رحمة الله ورضوانه على إمامنا العظيم الذي فكّر في هذه الأمور كلّها، ذلك النظر الثاقب وتلك البصيرة الإلهيّة، فقد استلهم كلّ تلك الأمور اللازمة من الله تعالى؛ أُلهم ذلك القلب الطاهر كلّ هذه الأمور، من دون أن يدرس السياسة في مدرسة أو يتعلّمها لدى أحد. لقد أسس الإمام "التعبئة"، وأشار أيضاً إلى "الاتّجاه".
لم يقل الإمام قدس سره تحرّكوا، انطلقوا، اشعروا بالمسؤوليّة، كونوا تعبويّين وحسب، أبداً؛ بل قال ماذا ينبغي لكم أن تفعلوا. قال لنا: "اصرخوا في وجه أميركا بكلّ ما أوتيتم من قوّة". هذا يعني "التوجيه"؛ يعني أن يعلّمكم ماذا تفعلون، وفي أيّ اتّجاه تسيرون، وبماذا تستدلّون؛ هذا ما علّمنا إيّاه الإمام قدس سره.
* أَدعو إلى الأخلاق
إنّني أدعو التعبويّين الأعزّاء إلى الأخلاق. ماذا نعني بالأخلاق؟ نعني الحلم والتحمّل، الصبر والمقاومة، الصدق والصفاء، الشجاعة والتضحية، الطهارة والعفّة. فالتعبويّون بحاجة إلى هذا كي تبقى أجزاء هذا البنيان الراسخ قويّة. إن أردتم بقاء هذا البنيان الرفيع مستحكماً كقلعة راسخة وثابتة في مقابل العدوّ؛ عليكم أن تراعوا هذه الأمور، عليكم أن تُظهروا التحمّل والصبر والأخلاق، والطهارة، أن تستحضروا النماذج العظيمة في صدر الإسلام.
كما أوصيكم وأؤكّد عليكم أن تحافظوا على صلابة المعتقد والإيمان والعمل وتحرصوا على عدم اهترائه. إنّنا في هذا المسير، حيثما نُواجه بالوساوس: وساوس المال، والشهوات، والمنصب، والصداقة؛ نُصاب بالاهتراء. حاذروا كي لا تُصابوا بالاهتراء العَقَدي، عليكم أن تؤثّروا في محيطكم، ولا تدعوا المحيط يؤثّر فيكم إن كان سيّئاً.
(*) كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله في لقاء أعضاء المجمع العالي لتعبئة المستضعفين بمناسبة أسبوع التعبئة في 27-11-2014م.
(1) الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 163.
(2) العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 20، ص 96.
(3) الحراني، تحف العقول، ص 356.