السيد علي عباس الموسوي
أنزل الله عزَّ وجلّ على رسوله المصطفى كتابه المنزل، ليُخرج الناس من الظلمات إلى النور، فتكفَّل هذا الكتاب ببيان الأحكام والمعارف والحقائق المشهودة والغيبيّة، ولكنّه بخطابه ولحنه ولغته خاطب النفوس الإنسانية أيضاً؛ لأنّه كتاب هداية وكتاب تربية، عالج في آياته بعض الأمراض التي يُبتلى بها هذا الإنسان فتأخذه إلى الحضيض حتّى يصبح أضلّ سبيلاً، وهذا معنى كون ما في القرآن شفاءً لما في الصدور.
وقد حثّ الله عزَّ وجلّ هذا الإنسان على بذل جهده في وقاية نفسه من الابتلاء بداء المعاصي، وجعل له حواجز تقيه من الوقوع فيها، وخاطبه مذكِّراً إيّاه بالعقوبات المترتِّبة عليها بما يجعل في نفسه الرادع عن الولوج فيها.
وكما اتَّجه الخطاب القرآني للفرد بهذه الدعوة التي تحمل حرصاً على سلامته من عقوبات الدنيا والآخرة، اتَّجه الخطاب القرآني للجماعة أيضاً، وللغرض نفسه، لأنّ من العقوبات ما ينزل بالمجتمع عامة ولا يختص بأفراد بعينهم، وذلك عندما يصبح المجتمع مجتمعاً ذا جرأة على المعاصي وعلى هتك حرمات الله عزَّ وجلّ.
ومن أهمّ الجرائم الاجتماعية الموجبة للعقاب الدنيويّ والأخروي مسألة الظلم الذي قد يمارسه المجتمع بشكل عام، فيتحوّل المجتمع إلى ظالم يبغي في الأرض، فتجد أنّ التعدّي والتجاوز أصبح سِمَة المجتمع بكافّة مكوِّناته وأطيافه.
هنا لا يرضى الله عزَّ وجلّ إلا بمواجهة هذا الظلم، والتصدي له، لأنّه خلاف الحق أولاً، ولأنه موجب لترتّب عقوبات عامة لا تختص بالأفراد الذين يمارسون الظلم، بل تشمل المجتمع ككل.
ولكنّ الخطاب القرآني في الوقت الذي فرض فيه على الإنسان مواجهة الظلم والتصدي له، حثّ الإنسان على أن لا تكون مواجهته للظلم بنمط سلبي، كمواجهة الظلم بالظلم، أو مواجهة التعدّي بالتعدّي، ولذا لم يكن من شرع الإسلام أن يواجه الإنسان الظلم الذي قد يمارسه الكفّار بمن يرتبط بالمسلمين بممارسة الظلم على من يرتبط بالكفار وإن لم يكن شريكاً لهم في ظلمهم.
نعم، جعل القرآن من حقّ المظلوم مواجهة ظلم الظالمين، فالانتصار للظلم الذي تواجهه حقّك الفطري الذي لا ينكر، ولكن الكلام كله في حدود المواجهة.
وهنا يأتي ما بدأنا به كلامنا، إنّها التربية القرآنية الأخلاقيّة والسلوكية التي تدعو الإنسان إلى أن يكون في المواجهة صبوراً، فلا يبادر إلى مواجهة الظلم عن انفعال فقط، بل أن يكون في مواجهته واعياً لطرق هذه المواجهة. فدعا الإنسان إلى الصبر والسيطرة على نفسه في المواجهة المشروعة لئلا يتسبب ذلك بخروجه عن الحق إلى الباطل.
ثم تترقى المعالجة القرآنية للنفس، فتدعو الإنسان بعد أن يمسك بزمام نفسه من خلال دواء الصبر، إلى أن يزيد في إنسانيته من خلال عفوه عمّن ظلمه. هذا العفو الصادر مع القدرة على الاقتصاص والأخذ بالحق، والذي يسمّى الحلم، هو فضيلة أخلاقية تأتي بعد أن يعبر الإنسان مرحلة الصبر. ولهذه الفضيلة تأثيرها على ذلك الظالم، لأنّ عفوك عنه مع قدرتك عليه يضعه موضع المؤاخذة، وبهذا تصل إلى المطلوب من ردعه عن الظلم.
ولأنّ الوصول إلى هذه المرحلة في معالجة الظلم الاجتماعي يتوقف على امتلاك إرادة قوية جازمة وعازمة كان الوصف القرآني لهذه الحالة بأنّها من عزم الأمور أي من الأمور التي تحتاج إلى تربية للنفس، تربية خاصة تسمح لها بأن تعتمدها أسلوباً في المواجهة، وقد قال تعالى: ﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾(الشورى، 43).
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.