لقاء مع الجريح المجاهد هادي مهدي مرتضى (عماد)
حنان الموسويّ
طرنا في الهواء جرّاء ضغط الانفجار، وتناثرت أركان الدشمة في الأرجاء، دون أن يتوقف إطلاق النيران البتّة، والهدف الأساسيّ كان للتكفيرين: "ميرزا 3" حيث كنتُ. تمركزوا في الوادي أسفل النقطة. كلّ أنواع الأسلحة وأكثرها تطوّراً أُطلقت علينا، حاولوا تطويقنا، فلم نستطع الحراك طيلة يومين. اغتنم المسلّحون فرصة تحسّن الطقس وذوبان الثلوج، وتمركزوا في "الصوالح"، تلك النقاط التي اضطرِرنا إلى التخلّي عنها لشدّة العواصف الثلجيّة في الشتاء، وكمنوا لنا فيها. لم تكن طلقة القنّاص الأولى أثناء التصدّي لذاك الهجوم هي التي أصابتني، فقد شقّت الهواء أمام وجهي وانفجرت في التراب، ولقد كان هدفه رأسي على ما بدا لي لكنّه أخفق. إلا أنّ الطلقة الثانية اخترقت كتفي ومزّقت رئتيّ.
•طفولةٌ ثوريّةٌ
طفولتي أزكتها حرب تمّوز 2006م، ومشاهد العنف التي نشرتها الطائرات الحربيّة، مضافاً إلى القصف والدم والدمار، حوادث خُلِّدت في الذاكرة، فانعكست منذ الصغر ثورةً في شخصيّتي، وتعلّقاً بحبّ مجابهة الظلم؛ لذلك انخرطت باكراً في خطوط التعبويّين بعد أن تدرّجت في مراحل كشّافة الإمام المهديّعجل الله تعالى فرجه الشريف، وبعدها خضعت لدورات عسكريّة وثقافيّة، صرت على إثرها مجاهداً متعاقداً أؤدّي واجبي أينما طُلِبَ منّي؛ فكانت خدمتي الأولى في سوريا على نقطة حدوديّة عند معبر "الضمَيْر"، ثمّ انتقلت سَريّتي إلى الغوطة الشرقيّة، ثمّ مكثنا قرب مقام السيّدة زينب عليها السلام في الشام لفترة، قبل أن ننتقل إلى القلمون حين جاء القرار بتطهير المنطقة هناك.
•نينوى
هجوم "السحل" دفع التكفيريّين لإحراق البيوت ومغادرة المنطقة برمّتها إلى الجهة المقابلة، فتمركزنا هناك وثبّتنا النقاط قبل أن ننتقل إلى "فليطة"، ومنها إلى تلّة "نينوى" للسيطرة عليها. نجح هجومنا، واسترجعنا جثمان شهيدٍ كانوا قد حاولوا أسره. بسطنا سطوتنا على التلّة لليلة، بعدها استرجعوها لليلة أيضاً، وما بين كرٍّ لهم وفرٍّ استعدناها من جديد.
تزامنت تلك المعارك مع حلول شهر رمضان المبارك. لظى شمس تلك الأيّام أيبس عروقنا. ثمّ انتقلنا إلى نقاط ثابتة تعرف "بالجهادات" في منطقة "فليطة" ومحيطها، حيث خدمت مرّات عدّة، كُلّل آخرها بحصار الثلوج لنا نحو عشرين يوماً، من ضمنها خمسة أيّام دون إمدادات أو دعم لصعوبة الوصول إلينا بسبب كثافة الثلوج، حتى أنّ الطعام والماء قد نفدا!
•معركة الحقّ والباطل
جاءت بداية شهر آذار حافلةً بالأحداث. عادت المعارك بضراوتها بين الحقّ والباطل. كنّا في نقاطٍ تُدعى "ميرزا 1"، و"ميرزا 2"، و"ميرزا 3"، حيث كانت الأخيرة نقطة الدعم التي تزوّد باقي النقاط بالطعام والعتاد. استهدف التكفيريّون منذ ساعات الليل الأولى النقاط الثلاثة بقصفٍ مدفعيٍّ عنيف. كان الهجوم من جهة الوادي شديداً، لم يستطع أحدٌ استيعاب هولِ القصف. ساندتهم نقاط تسمّى "الصوالح"، فقام المجاهدون بإخلائها بسبب صعوبة الوصول إليها في الشتاء.
•جرحٌ خفيّ
قسّمنا المهام بيني وبين أحد أصدقائي. طلبت منه الاستراحة قليلاً بينما أتابع المراقبة وحراسة النقطة التي لم يكن لها سوى مدخل واحد. استهدفه قنّاصٌ تخفّى في مكانٍ مستتر من "الصوالح" يعلو دشمتنا ليصطادنا. كلّما رميت تُجاه الوادي رمى باتّجاهي. وهجُ طلقته الأولى لامس وجنتيّ قبل أن تنفجر أمامي في التراب، بينما استقرّت الثانية بعد دقائق في كتفي، اخترقت رئتيَّ دون أثر، واستقرّت في ظهري. ندائي باسم الزهراء عليها السلام قبل وقوعي أرضاً لفت صديقي، لكنّ الدهشة غشيته؛ لأنّه لم يعرف سبب سقوطي، ولأنّ مكان دخول الطلقة قد برئ لشدّة سخونتها دون أيّ ندبةٍ أو نزف. بقيَ الأمر مجهولاً، حتى لاحظ يدي مضمومة إلى صدري.
•إصابة خفيّة
حاول المجاهدون اكتشاف ما حصل معي. قاموا بتمزيق ثيابي وتفحّص جسدي بالكامل، دون أن يعثروا على سببٍ لفقداني الوعي. حضر المسعف سريعاً وأجرى لي الإسعافات الأوليّة دون أيّ تجاوبٍ منّي، حقَنني بمادةٍ مقوّية ولكنّي لم أصدر أيّ انفعالٍ حركيّ، حينها طلب من القيادة إرسال سيّارة إسعافٍ لنقلي إلى مستشفى "فليطة" الميدانيّ، ومنها إلى مستشفى "قارة"، ثمّ مستشفى "النبك"، حيث استعدت وعيي والمواجع تحاصرني؛ فألم كتفي وظهري يمزّق نياط صبري. هناك، كشفت الفحوصات اختراق الطلقة ومسارها في جسدي، حيث استقرّت في ظهري مهشِّمة ثلاث فقرات من عمودي الفقريّ، وثلاثة أضلع من قفصي الصدريّ، مسبّبةً نزيفاً داخليّاً حادّاً. تلك الحالة استوجبت نقلي إلى لبنان، وتحديداً إلى مستشفى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في بيروت.
•شللٌ معتّق
كان الطاقم الطبّيّ بانتظاري. فور وصولي خضعت لجراحةٍ في الكتف والصدر لتفريغ الرئتين المشبعتين بالدماء وترميمهما، ولإعادة الأضلاع المكسورة إلى مكانها، وكذلك لجراحة في الظهر لتثبيت الفقرات المهشّمة ومحاولة ترميم النخاع الشوكيّ الذي قُطِع. استفقت بعد أيّامٍ في غرفة العناية الفائقة لا أشعر بالألم، بل أترنّح بين نومٍ ويقظة، وحولي أهلي الذين واكبوني بفخرٍ واعتزازٍ منذ اللحظة الأولى. حرمتني إصابتي القدرة على السير مجدّداً، أو الإحساس بجسدي في القسم السفلي، ومع ذلك، لم يُبدِ أهلي أيّ ضعفٍ أو تذمّرٍ. موقفهم المشرّف ذاك، زاد من عزيمتي. بقيت أتردّد إلى المستشفى طيلة تسعة أشهر بسبب مضاعفات الإصابة، كما أنّي خضعت لعلاجٍ لكتفي استمرّ شهرين.
•أجمل الأرزاق
عقدت قراني في العام 2016م على امرأةٍ باعت الدنيا بمن فيها وشرَت قربي. عرفتها قبل إصابتي وقد جمعتنا المودّة والرحمة، فانسكبت عطراً في خوابي أوردتي حين ازداد تمسّكها بي، بعد الوضع الجديد الذي طرأ عليّ؛ فأخذت على نفسها عهداً أن تلازمني وترعاني. رزقنا الله طفلاً أسميناه "ساجداً"، هو أجمل رزق وأثمنه، وجودُه منحنا الأمل.
•باسمها كان توسلي
لم يخالجني الندم مطلقاً على مشاركتي في الدفاع عن أرضنا وعرضنا ضد هؤلاء البشر الآثمين؛ لأنّه دفاعٌ عن كلّ المظلومين في العالم، وعن مقامات أهل البيت عليهم السلام في سوريا والعراق. أُهدي جراحي وكسر ضلوعي لمولاتي فاطمة الزهراء عليها السلام، فكلّ المواساة تصوغ ملامحي حزناً عتيقاً للمظلوميّة التي لحقت بها وببعلها وأبنائها، وباسمها كان توسّلي لبلسمة آلامي، فهي مصدر قوّتي وصبري، وإليها أبثّ جهادي حين تنهشني الأوجاع. بعد الإصابة رزقني الله زيارة المراقد المقدّسة في العراق، كانت هديّة من أحد الإخوة لي ولجريح يعاني من الشلل أيضاً.
•رسالة الوجد
أقول لسماحة السيّد حسن نصر الله -أطال الله في عمره الشريف-، حامل همِّ الأمّة بأكملها: يا سيّداً يحتوينا مع كلّ حرفٍ ينطقه، نحن جنودك، نسير نحوك لا تعبٌ يحجبنا عنك ولا خوف، طريقك نهج الخير الذي لا حُجُبَ تظلّله. دماؤنا تهون لتبقى العزّة في عينيك، يا محراب حواسنا وإمامها والقلب. صوت الحنين يجلجل للعودة إلى الجبهة، فلو كتب الله لي الشفاء يوماً لن أتوانى لحظةً عن الحضور مع المجاهدين في الثغور. ما زلنا رغم الجراح نستطيع الجهاد بالكلمة والموعظة الحسنة، بتصرّفاتنا مع الناس، بالدفاع عن عقيدتنا وعن انتمائنا إلى هذا الخطّ المقدّس، نخبّئ في دمائنا صوت العتاب، لمن يجهل سبب ثورتنا وانتفاضة الحقّ في عروقنا.
الاسم الجهاديّ: عماد.
تاريخ الولادة: 8/6/1991م.
مكان الإصابة وتاريخها: القلمون 18/3/2015م.
نوع الإصابة: شلل سفليّ.