آية الله الشيخ عبد الله جوادي الآمليّ
البيئة تعني المحيط الذي يعيش فيه الإنسان وكلّ مخلوق حيّ، بدءاً من فضاء البيت، مروراً بالأزقّة، والشوارع، والحدائق، والمساحات الخضراء، والمحطّات، والغابات، وضفاف الأنهار، والمراكز التعليميّة والبحثيّة والثقافيّة والخدميّة والإداريّة والعباديّة وغيرها. وعليه، فإنّ سلامة البيئة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالحياة السليمة للمجتمع. فكما أنّ اعتبارات النظافة ووقاية الجسم تتقدّم على العلاج، فإنّ توفير الأجواء السليمة والبيئة المناسبة تتقدّم أيضاً على إصلاح الأضرار الناجمة عن تدمير البيئة، وهي مَهمّة الجميع في أن يحافظوا على بيئةٍ نظيفةٍ خاليةٍ من التلوّث.
"اكنسوا أفنيتكم"
المحافظة على البيئة تعني مراعاة حقّ الأرض، والهواء، والماء، والتراب، والبحر، والصحراء، والبراري، والسهول، والنباتات، والحيوانات، وسائر المخلوقات، ومجالات البيئة التي ترتبط بحياة الفرد والمجتمع(1). وقد ورد في تعاليمنا الدينيّة نهيٌ عن تلويث البيئة، وحضٌّ وأمرٌ على تنظيفها من كلّ تلوّث إن حدث؛ كما جاء في حديث النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والإمام جعفر الصادق عليه السلام: "اكْنُسُوا أَفْنِيَتَكُمْ وَلا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُود"(2)؛ يوصي الحديث الشريف بنظافة البيئة، ويدعونا أن لا نتشبَّه باليهود، وقد ذُكر اليهود هنا كمثال؛ لأنّهم في ذلك الزمان لم يراعوا نظافة البيئة. وفي الحقيقة، إنّ مقصود الحديث عدم التشبّه بأيّ جماعة لا تحافظ على نظافة البيئة.
المحافظة على البيئة ونظافتها
قال النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "إنَّ الله تَعَالَى يُحِبُّ الطِّيْبَ، نظيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ... فَنَظِّفُوا أَفْنِيَتَكُم"(3). نستخرج من هذا الحديث الشريف نقاطاً عدّة، هي:
1- إنّ مبادئ البيئة ذات صبغة ملكوتيّة من منظار الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم. ومراعاة شروط الطهارة والنظافة للجسم والمنزل، ومواقع البيئات العلميّة والمراكز الثقافيّة والعباديّة وغيرها، أمر مهمّ للغاية؛ لأنّ الإنسان خليفة الله تعالى، ومن يتبوّأ هذه المكانة، عليه أن يتشبَّه بسنَّته وسيرته، وأن يهتمّ بالنظافة؛ لأنَّها موضع اهتمام الله تعالى.
2- إنّ الرائحة الزكيَّة والنظافة تضفي رقّةً وجمالاً على الروح؛ فروح الإنسان تجاور بدنه، وتبادل التأثير بينهما أمر مفهوم عند الحكيم، ومقبول من الطبيب؛ ففي غمرة الرائحة الزكيّة ونظافة البدن وطهارة التقوى، تكتسب الروح القدرة على التحليق.
3- يجب على جميع البشر؛ النساء والرجال، والأقوياء والضعفاء، في جميع مراحل حياتهم، ومن كلّ ناحية وصوب، المحافظة على أجسامهم ومنازلهم وأماكن عملهم نظيفة، ووقايتها من كلّ تلوّث، والمبادرة إلى تنظيفها إن تلوّثت. هذه مبادئ وحقوق وواجبات متبادلة بين جميع المواطنين تُجاه بعضهم بعضاً، وكذلك الدولة والأمّة أحدهما إزاء الآخر.
4- إنّ النسمات التي تهبّ من الجبال والأحياء النظيفة المعطّرة، لا تنعش أنفاس المواطنين بالروائح الزكيّة فحسب، بل تمثّل مرسال المحبّة والصفاء والوفاء؛ لأنّ مثل هذه الأجواء النظيفة والعطرة محبوبة عند الله الجميل الذي يحبّ الجمال والعطر(4).
قال النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عن جبل أُحُد: "وهَذَا أُحُدٌ، جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ"(5). طبعاً، هذا الحديث الشريف لا يختصّ بجبل أُحُد فقط؛ بل المقصود به أنّنا أحباب جميع الجبال والجبال أحبابنا، وإنّما ضرب مثلاً بأُحُد.
انسجام وتناغم
في ظلّ هذه المعرفة، تكتسب المحافظة على البيئة معناها. وعندها، لن يلوّث الإنسان بحراً، ولن يدمّر صحراء ولا جبلاً. وحديث النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يعني أنّ علينا أن نستغلّ المعادن والمناجم والجبال التي أنعم الله تعالى بها علينا، الاستغلال الأمثل والصحيح. وكذلك الأمر بالنسبة إلى البحار والصحاري والأشجار، التي تحمل ورقاً وثمراً للإنسان والطيور والدواب.
لو حصل هذا التناغم والانسجام، فلن تتلوّث البحار والصحاري. ومن يعدّ نفسه "خليفة الله"، سوف يعدّ الجبل أحد أصدقائه، ولن يلوّث البيئة أبداً، لكيلا يكون تجسيداً للآية الكريمة: ﴿إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً﴾ (النمل: 34)، ولن يتصرّف بهذا الشكل(6).
أمانة إلهيّة
حريّ بالمسلمين أن يتعاملوا مع البيئة على أنّها أمانة إلهيّة، ويهتمّوا بالمحافظة عليها، وأن يحرصوا على عدم تلويثها، وأن يجعلوا ذلك فرضاً عليهم، لا يتخلّون عن أدائه حتّى في حالات الحرب. روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً دَعَا بِأَمِيرِهَا، فَأَجْلَسَه إِلَى جَنْبِه وأَجْلَسَ أَصْحَابَه بَيْنَ يَدَيْه، ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وآله وسلم: سِيرُوا بِسْمِ اللَّه وبِاللَّه وفِي سَبِيلِ اللَّه وعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، لا تَغْدِرُوا ولا تَغُلُّوا ولا تُمَثِّلُوا ولا تَقْطَعُوا شَجَرَةً إِلَّا أَنْ تُضْطَرُّوا إِلَيْهَا"(7).
ونهي الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عن قطع الأشجار ربّما يعود إلى تأثير ذلك في سلامة البيئة؛ ويعضد هذا الرأي قول الإمام جعفر الصادق عليه السلام: "لا تَطِيبُ السُّكْنَى إِلَّا بِثَلاثٍ: الهَوَاءِ الطَّيِّبِ، وَالمَاءِ الغَزِيرِ العَذْبِ، والأَرْضِ الخَوَّارَة"(8). الحديث هنا عن طيب السّكنى وليس البقاء على قيد الحياة فقط؛ فالمبتلون بالقحط في البلدان الفقيرة هم أيضاً على قيد الحياة، ولكنّهم يعانون من الفقر والمرض، ولا يتمتّعون بالحياة الهانئة، فهم في وضع ﴿لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى﴾ (الأعلى: 13)، فلا هم ميّتون ولا هم يتمتّعون بهذه الحياة؛ بينما المجتمع الذي يعيش أفراده وضعاً بيئيّاً وصحيّاً جيّدين، ويتمتّعون بظروف اقتصاديّة ممتازة، هم وحدهم الذين ينعمون بحياة هانئة وباكتفاء ذاتيّ(9).
(*) من كتاب: مفاتيح الحياة- الباب الخامس: تعاطي الإنسان مع الخِلقة البيئيّة- الفصل الأوّل- بتصرّف.
(1) اسلام ومحيط زيست، ص 38.
(2) الكافي، الكلينيّ، ج 6، ص 531.
(3) الجامع الصغير، السيوطيّ، ج 1، ص 268.
(4) سروش هدايت، جوادي آملي، ج 1، ص 35-38.
(5) بحار الأنوار، المجلسيّ، ج 21، ص 248.
(6) انظر: (م. ن)، ص 73-75.
(7) الكافي، (م. س)، ج 5، ص 30.
(8) تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، الحرانيّ، ص 320.
(9) اسلام ومحيط زيست، (م. س)، ص 87.