مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

ثالث الاستشهاديّين السيّد عليّ حسين صفيّ الدين



نسرين إدريس قازان


اسم الأمّ: ليلى عبّاني.
محلّ الولادة وتاريخها: الحلّوسية 30/6/1966م.
الوضع الاجتماعيّ: عازب.
مكان الاستشهاد وتاريخه: دير قانون النهر 13/4/1984م.

 

ولمّا بلغ الثامنة عشر من عمره، كان رجلاً في زمن الرجال الرجال، زمن العين التي قاومت المخرز، زمن الجيل الذي كان يتعب ويشقى، ويتقاضى ثمن تعبه ليشتري الرصاص والسلاح، زمن الملاحقات والمطاردات، من بيتٍ إلى بيت، وبين الحقول والأحراش، حيث لم يعد هناك أيّ مكانٍ آمنٍ لشباب الجنوب؛ إذ كان العدوّ الاسرائيليّ، يحتلّ الأرض والسماء، بجنوده وعتاده وطائراته.

* حُسن جماله
لم تكنْ حياة "عليّ"، ذلك الشاب اليافع، سهلة، ولكنّه لم يستصعبها، بل جاراها، ومشى في دروبها كيفما أراد اللهُ له أن يمشي.

الابن البكر للسيّد حسين صفيّ الدين، الذي ما إن أخذته الدايةُ بين ذراعَيها، حتّى بدأت بالصلاة على محمّد وآل محمّد لجماله وحُسنه، وأعطته لوالده الذي غمرته الفرحة بولده؛ أوّل فرحة في بيته الذي مُلئ بأربعة أطفال سنةً بعد سنة، فتكوّنت بذلك عائلةٌ جميلةٌ محبّة.

* قتل الصهاينة مُنيته
في قرية "الحلوسيّة"، حيث اشتغل الأب لتأمين قوت عياله، ورعت الأمّ أبناءها، تربّى "عليّ" بين أحضان البيت ومقاعد المدرسة، والركض في مساحات الشمس الجميلة التي يعشقها؛ يتسلّقُ الأشجار، ويصطاد العصافير، ويستكشف الأماكن. ولم تخلُ طفولته من حكايا فلسطين، وما يفعله العدوّ الإسرائيليّ بأهلها، وكيف يقتربُ الخطر من الجنوب؛ إذ كانت العصابات تُغير على القرى المتاخمة لفلسطين، تفتعل المجازر، تقتل، تحطّم الأسواق المتنقّلة، تأسر الشباب، ولا ترحم كبيراً أو صغيراً، فرسّخت هذه الأخبار في باله الشرارة الأولى التي اتّقدت في روحه، فطوّر لعبه مع رفاقه، وحوّلوا الصخور إلى دشم، وصنعوا من الأخشاب أسلحتهم، وصار قتل الصهاينة منيتهم.

* رحيل السّند
لم تكن الظروف الأمنيّة هي فقط من كدّر صفو تلك الطفولة، بل أيضاً الضائقة المعيشية لأهله؛ فأخذ أبو عليّ أولاده، ونزح بهم إلى منطقة برج البراجنة، حيث سكنوا بيتاً صغيراً، وبدأ العمل هناك، فيما أولاده تابعوا الدراسة، وتحوّلت القرية عندها إلى مكانٍ لزياراتٍ متقطّعةٍ يزور فيها "عليّ" بيت جدّه، ويتفقّد بيتهم، ويصلّي في مسجدها القديم، ويعود إلى بيروت.

وبعد سنواتٍ قليلة، استيقظ "عليّ" يوماً على صوت صراخ أبيه المتألّم، ورأى كيف ارتدت أمّه ملابسها سريعاً، وبصعوبة ساعدت أباه في النهوض لنقله إلى الطبيب، وقبل أن تخرج، قالت له: "عليّ، أنت الكبير، عليك أن تتحمّل مسؤوليّة إخوتك في غيابنا". فاهتمّ بإخوته طوال النهار، وأطعمهم بيديه. ولمّا تأخّر والداه، استبدّ به القلق، وحاول جهده إخفاء الخوف عن وجهه، حتّى لا يتأثّر إخوته به فيخافوا. ولمّا عادا، كان أبوه متعباً جدّاً، وأمّه تحمل كيس الأدوية. أخبرتهم أنّه سيتحسّن بفعل الدواء، وحده "عليّ" رمقها وهي تجهش بالبكاء بصمت وتكتم صوتها بمنديلها، فعرف أنّ والده مصاب بمرضٍ عضال!

* العودة إلى الربوع
سرعان ما عادت الأمّ بأولادها إلى "الحلوسيّة"، حيث بدأت بالعمل لإعالة عائلتها، وكان العدوّ الإسرائيليّ قد اجتاح الجنوب، وامتلأت الطرقات بالجنود، وتحوّلت بعض المدارس إلى ثكناتٍ ومعتقلات، وانتُهكت حرمات البيوت. ومع هذا القهر الخارجيّ، توفي والد "عليّ" الذي أذابه المرض، فازدادت المرارة في نفس الفتى اليافع، ولكنّه لم يركن للحزن؛ بل سارع لتحمّل مسؤوليّة إخوته الأيتام مع أمّه، فلم يقبل أن يتابع دراسته فيما هي تعمل، بل وقف إلى جنبها سنداً وملاذاً، وبدأ بالعمل في مهنة البلاط التي أتقنها وبرع فيها، أَوَليس هو كبير إخوته الذين هم من مسؤوليّته؟!

* معيلٌ ومقاومٌ
بين "الحلوسيّة" وبيروت، حمل "عليّ" همّ تأمين معيشة إخوته، وتخفيف الحمل عن أمّه، ولكنّ هذا الأمر لم يصرفه عن الهدف الأكبر؛ ألا وهو مقارعة العدوّ الإسرائيليّ، ولكن ليس تلك المقارعة العشوائيّة، بل المقاومة النابعة من القيم الدينيّة التي تربّى عليها، والأسس الأخلاقيّة المجتمعيّة.

وكان نور الشيخ راغب حرب (رضوان الله عليه) في جبشيت هو ما اجتذب روحه، وصار كالفراشة يطوف حوله، يجلس تحت المنبر كالأرض العطشى للماء، ينهل منه الثورة والقوّة، ويعود مفعماً بالحماسة الواعية، ولم يسمح لأيّ أحد من أهل بيته أو أقاربه أن يشعر أنّه بدأ بمشاركة المجاهدين في العمليّات العسكريّة الخاطفة ضدّ العدوّ. وكان "عليّ" جنباً إلى جنب مع رفاقه، يصعدون جبلاً وينزلون وادياً، يلجؤون إلى المغاور وإلى البيوت البعيدة، هرباً من الاعتقال. وقد اعتقل العدوّ الإسرائيليّ الشيخ راغب، ما ملأ قلب "عليّ" حزناً وغضباً في آن، فترافَق الغضب الشعبيّ المتزايد، مع عمليّاتٍ عسكريّة ضدّ الدوريّات الصهيونيّة، وكان "عليّ" أحد المشاركين فيها.

* بروحٍ حسينيّة
بلغ السيلُ الزبا في عقل "عليّ" وقلبه، وكأنّ قراءته لما يجري تمّت، وفهم أنّ هذه الطريق تحتاجُ لأسمى التضحيات، وأنّ المعركة ليست معركة تحرير أرضٍ فحسب، بل معركة وجود الإسلام المحمّديّ الأصيل، إسلام الإمام الخمينيّ قدس سره مستنقذ الأمّة من التحريف، وهذا الإسلام لا ينتصر إلّا بالروح الحسينيّة.

تفي بالغرض
كان "عليّ" يتقاضى أجرته من مهنة البلاط، فيقسّم المبلغ قبل أن يغسل يديه: قسمٌ لأمّه وقسمٌ له ادّخره حتّى اشترى به سيّارةً من أحد معارفه، بسعرٍ متواضع. كانت سيّارةً خضراء جميلة، لمّا رآها إخوته، هرعوا إليه ليأخذهم في نزهة. أمّا رفاقه، فعندما سألوه لماذا لم يتريّث قليلاً حتّى يدّخر مزيداً من المال ويشتري واحدة أحدث، ضحك قائلاً: "إنّها تفي غرضها"! ولم يعرف أحد منهم أيُّ غرض يقصد؛ تنقّله إلى ورشه، أو تلبية طلبات أمّه وإخوته، أو ربّما تحضيراً لخطبة الفتاة التي يهواها قلبه، ولكنّ أحداً لم يكن ليتوقّع "الغرض الحقيقيّ لها"!

* ذكرى جميلة
جلس "عليّ" بين إخوته، يوصيهم بطريقةٍ غير مباشرةٍ بأمّهم وبأنفسهم. ولاحظت أمّه أنّ شيئاً ما تغيّر في ابنها؛ لقد تجاوز فكره عمره بسنوات، وكبّره الهمّ، فتمنّت لو أنّها تستطيع أن تعرف ماذا يجول داخل صغيرها الذي كبر كثيراً وهو لا يزال في الثامنة عشر من عمره، تنتظر أن تفرح به، وهو الذي لم يترك وسيلة ليفرحها وإخوته إلّا ولجأ إليها؛ لقد كان معطاءً فوق الحدّ، ومؤثِراً بكلّ شيء. كانوا يجلسون جميعاً مع جدّيه اللّذين تعلّقا به كثيراً، وتلك كانت الجلسة الأخيرة لهم معاً، وكلّ واحد منهم احتفظ منه بذكرى جميلة.

* السيّارة الخضراء الجميلة
في تلك الأزقّة التي حفظت ابتسامته، وسلامه المحبّ للجميع، مشى "عليّ" متوجّهاً إلى حيث ينتظره رفيقه في محلّ لتصليح السيّارات (كاراج). وبسرعة، أغلقا بابه الجرّار عليهما، وراحا يشتغلان في تفخيخ "السيّارة الخضراء الجميلة"، وقد اشترى "عليّ" العبوات التي فخّخ بها سيارته من ماله الخاصّ، وبمواكبةٍ من الإخوة المقاومين.

ظلّ لفترةٍ يترصّد حركة الدوريّات الإسرائيليّة في بلدة "دير قانون النهر"، بلدة أمير الاستشهاديّين أحمد قصير، الذي تأثّر به "عليّ" كثيراً، إلى أن حان موعد الالتحام في 13 نيسان. خرج عليّ على عجالةٍ من أمره، وتوجّه بسيّارته إلى بلدة "دير قانون النهر"، حيث وقف على جانب الطريق من دون أن يطفئ محرّك السيّارة، منتظراً الدوريّة التي ما إن أطلّت، حتّى بدأ بقراءة الشهادتَين، وانطلق نحوها، وأمام عينيه صورة الشيخ راغب حرب وهو يصدح بصوته: "دم الشهيد إذا سقط، فبيد الله يسقط، وإذا سقط بيد الله، فإنّه ينمو"!

* جيشٌ مكلّلٌ بالعار
دوّى صوت انفجار السيّارة المفخّخة بـ150 كلغ من الموادّ المتفجّرة TNT، فقُتل 12 جنديّاً صهيونيّاً وجُرح 15 آخرون. هرع جنود العدوّ لمحاصرة المكان، واستنفرت جميع القوّات، ولكن ما عاد يجديه أيّ شيء، فكيف يُقهر شبابٌ بعمر الورد قهروا الموت؟!

عقب العملية، قال مراسل تلفزيون العدوّ آلون بن ديفيد: "إنّ جيش الدفاع الذي سيخرج قريباً من لبنان، ليس هو الجيش نفسه الذي دخل إلى لبنان، إنّه جيشٌ خجلٌ مكلّلٌ بالعار".
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع