ولاء إبراهيم حمود
بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [صدق الله العلي العظيم]..
هذا ما قاله الباري جلّ وعلا في الآية الحادية عشرة من سورة التحريم – التي تحدّثنا الآن عن سيدة أخرى تتهادى في جنان الله وفي كتابه العزيز بين أمومةٍ تتجاوز معنى الملكية لتسمو كمعنى إنساني مطلق وبين شهادةٍ تتجاوز قدراً محتوماً لترتفع في الجنان بيتاً نهضت جدرانه على صلابة الاختيار الحر والقرار الطوعي..
إنّها آسية.. وآسية لُغَةً تأنيث آسٍ والآسي هو الطبيب المداوي وما ألطف التناسب القائم بين الاسم وبين من داوت طفولة نحر رضيع بحكمتها وحفظتها من الذبح. وهي بنتُ مزاحم بن عبيد بن الريّان بن الوليد. ومزاحم هذا رجلٌ أغفلته كتبُ التأريخ، فلا تفاصيل حول شخصيته أو دوره في الحياة. وكأني بالتأريخ قد وجد في أبوته لآسية ما يكفيه مجداً في الدنيا. وشفاعةً في الآخرة والله أعلم. وهي زوجة فرعون مصر وما أدراكم ما معنى أن تكون امرأةٌ زوجة لفرعون وما معنى أن تشاركه حياته في مجدٍ متفرعن دنيوياً. لقد تجلّت أمامنا وأمامكن بوضوح شخصية الريحانة السابعة من رياحين القرآن، إذاً هي آسية بنت مزاحم زوجة فرعون الذي أعلى ربوبيته نرجسياً، فباء بغرقٍ مهلك وهي بعد كفيلة موسى نبي الله وكليمه وهي الشهيدة التي طلبت إبّان استشهادها ما عند الله رافضة ما عند فرعون لأنّ ما عند الله خيرٌ وأبقى. تعنينا من هذا التعريف الموجز صفتان، وردتا في نهايته وهما محورا شخصية آسية التي تناولها كتابُ الله.. في سورتين مختلفتين وفي حادثتين اختلفتا زماناً ومضموناً واتفقتا مكاناً. وقد عرض القرآن الكريم هاتين الحادثتين لنا بإيجاز لا يخل بالتفاصيل البسيطة التي تجمّعت حولهما. ترى كيف أظهر القرآن شخصية آسية، كيف بدت لنا عبر آياته الباهرات؟؟
وما هما هاتان الحادثتان؟؟ هذا ما سيجيبنا عنه ما تبقى من صفحات..!
قرب قصر فرعون.. وفي مكان ما، على النهر المجاور كتبت آسية بنت مزاحم أولى الكلمات الرحيمة في سِفْرِ الأمومة العقيمة إلاّ من ذلك الفيض الدافئ عطفاً ونُبلاً والذي يملأ جنان كلّ عارفٍ بالله.. وبعباد الله.
كان المكان مُعَداً منذ اللحظة الأولى كمسرح تُحَلّقُ فيه هذه المرأة رمزاً لكلّ معاني العطف الصادق المجّاني. الذي لا يسأل أجراً إلاّ الرحمة بالطفولة الذبيحة. أشجارٌ باسقات تنشرُ الفيء ظليلاً ونهرٌ يحتضن الظلال، لترش مياهه المكان عذوبةً ونسيماً عليلاً. وطفلٌ رضيعٌ أنهى اليوم الأول من عمره وقرب النهر آسية وجواريها. وفي إضافات تاريخية لا نحتاجها شرطيٌ موكلٌ بحراسة المكان، كي لا ينجو عبره طفلٌ يهدّد في مستقبله حياة فرعون. وهو في هذا اللحظة يرتضع الحياة متدفقةً في مجرى نهر يتحدى إرادة العسس التي انبرت تُنفذ أمر فرعون بذبح كلّ وليدٍ. وأراد فرعون أمراً. وأمر الله آخر وقد كان الآخر قدراً محتوماً، للرضيع ولآسية ولفرعون. كان الرضيع موسى بن عمران وكان الأمر ذبحه وكان اللطف إلهياً غمر قلبَ آسية، زوجة المسيطر ببطشه المُرتعب الغارق في أوحال خوفٍ يذبح الأطفال. والقرآن الكريم يختصر كلّ هذا ليرينا أهم ما في اللوحة، يمٌ يحمل على صفحته رضيعاً ذُبِح لأجله رُضعُ كُثُرٌ. وعلى ضفته المقابلة آل فرعون يلتقطونه ليُقتل كما سواه. بأمر فرعون فتتقدّم بعد فترةٍ وجيزة امرأةٌ زانها الله قلباً رقيقاً حانياً، ينعكس على صفحة وجهٍ لم تشوّه الإنسان فيه تقاليد فرعنةٍ كانت تحيا في ظلالها. ولكنّها أخذت منها أنبل ما فيها، كان فيها شموخٌ وعظمة وقد أحاطا بآسية من كلّ جانب وهي توجه خطابها إلى زوجها المتفرعن مباشرةً – كما يبدو من سياق الآية التاسعة من سورة القصص: (وقالت امرأة فرعون قرّة عين لي ولك، لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتّخذه ولداً)، وقد كان لها ما أرادت.. لن نتوقف عند تفاصيل وصول موسى الرضيع إلى قصر فرعون، سنكتفي بقراءة الآية العاشرة من سورة القصص، قراءةً متأنية نتلمس فيها ملامح آسية في تلك اللحظة لنرى أنّها بدت في قراءة أولية عاجلة، سيدة قرارٍ نافذ وصاحبة أمر مُطاع ونهي مُجاب حتّى عند زوجها الفرعون الطاغية، الذي اعتاد رؤية الآخرين يسجدون له دون الله سبحانه.
ولكن وعند الدخول في قراءةٍ متأنية نكتشف أنّ آسية امرأةٌ تعرف مواقع القول جيداً فتلقي قولها وتستشف أعماق الآخر بنظرةٍ تحسن النفاذ إلى العمق في النفس البشرية تتعامل مع هذا العمق دون الالتفات إلى السطح. وهذا ما أعطاها قدرةً على التأثير في قرارٍ جائر لم يستطع أحدٌ من الناس تغييره وهذا يتضح حين نلاحظ أنّ أول القول عند آسية كان كلمة تضرب – كما يقال – على الوتر الحسّاس في نفس فرعون. وهو وتر الحرمات والقلق والأرق المعبّر عن وجوده في نفس زوجها وببلاغةٍ وحكمةٍ عرضت علاجه دون إعلان وجوده واكتفت بإيجاز عرض واقع الحال وعلاج هذا الواقع بذكر العلاج المتمثل في الحفاظ على الرضيع فانبرت بلهفةٍ لم يُخْفِها الاتزان ولم تُخفّفها الحكمة والرويّة بالقول: (قُرّةُ عين لي ولك) ثم انطلقت إلى الجماعة في اتزان لم تفقده المفاجأة الجميلة بإيجاد الطفل والفرحة العارمة بنفاذ رجائها إلى نفس طاغية العصر شيئاً من تماسكه. فأصدرت أمرها الملكي: (لا تقتلوه). لم تكن آسية في عرض طلبها ولا شجاعتها في اختراق قرار الذبح المُسلّط على نحور الرضع مُجرّد ومضاتٍ تشِعّ ثم سرعان ما تخبو، بل كانت كلّ تلك الفضائل جذوراً متأصّلة في نفسها لذلك تابعت تجليها بالمستوى نفسه من التألّق على مسرح الآية القرآنية الكريمة، فتقدّمت أمام أنظار معاصريها وقارئي كتاب الله في كلّ زمان ومكانٍ معلنةً سبب رغبتها في الإبقاء على حياة الرضيع وبذات الإيجاز الفني بالدلالات (عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً). وهكذا كان وحفظت آسية حفظاً لأمر الله في خلقه وتنفيذاً لإرادته العلية طفولة نبي دكّ فيما بعد عرش فرعون واقتلعه من جذوره وبقيت آسية في ذمّة التاريخ وفي القرآن أعظم الكتب، أروع مثالٍ لأمومةٍ لم تنجب الحياة ولكنّها حافظت على حياة طفل أراد الله أن يهبه إيّاها. وأراد فرعون سلبها له. ولم يكن لإرادة فرعون صمودٌ أمام إرادة الله. فكانت آسية بما وهبها الله من إنسانيةٍ فذّةٍ وأمومةٍ راقية صادقة التجلّي مثالاً يُحتذى لكلّ امرأةٍ تبحث عن خلاصٍ ومنارةٍ، لكل أنثى تبحث عن كلّ الدروب المؤدية إلى الله..
أمّا شهادتها، فقد أعطاها القرآن الكريم أبعاداً مهمة انفردت فيها شهيدة شاهدة بين نساء العالمين قاطبةً، على دروب التوحيد وفي ضياء معرفة الله، لذلك رسم القرآن مشهد شهادتها بألوانٍ زاهية تتلألأ كالفردوس أمام طلاّب الشهادة، لقد جعلها مثلاً لكلّ الذين آمنوا دون تمييز بين رجلٍ وامرأةٍ فكانت بذلك مثالاً للرجالِ كما للنساء أن لم نقُلْ قبلهن.
صحيح أنّ القرآن الكريم لم يذكُر لنا تفاصيل الحدث الخاتمة في حياتها. وصحيح أنّه ترك للمؤرخين ذِكْرَ صخرةٍ ثقيلة وُضِعت على صدرها وقد لفظت أنفاسها على الأثر ولكنّه ذكرَ في مكان آخر أوتاد فرعون التي ضاعفت آلام آسية. لذلك لا نبالغ فعلاً لو قلنا أنّ آسية في كتاب الله سيدة الإيمان الممتحن والقول المحكم. فها هي وفي آخر لحظاتها مع الحياة تعاني وجع الأوتاد التي وتد فيها فرعون أطرافها وهي تقف شامخةً إزاء المسافة التي امتدّ فيها جسدها الشريف – مادّةً وظلاّ – طريحاً على رمضاء محرقة قرب قصر كانت تنعم فيه بعز لم تسبقها إليه امرأة قط، وها هي اليوم تلغي كلّ ما نظرته عيناها سابقاً لتكتفي بإيمانها بالله يُريها في احتدامٍ معاناتها لوجع الصخرة الملقاة على صدرها ما طلبته منه سبحانه وقد كان طلبها بيتاً في الجنة رافضةً إزاءه قصر فرعون ولنلاحظ أنّها ما طلبت قصراً بقصرٍ بل بيتاً يكفيها لعبادة الواحد الأوحد. وينجيها من فرعون ومن فراعنة مثله.
لم يُسْدِل الخالق ستاره على آسية كفيلة موسى لقد تركه مفتوحاً لمشاهد زادها الحق بهاءً فنبضت بالحياة في بيتٍ ارتفع في رياض الجنّة لِتَخْلُدَ آسية مع الخالدين في جنات النعيم ولتبقى في ضميرنا صوتاً ينشر الحبّ والأمن والسلام كما يرفض الظلم في أصعب المواقف وقلباً يلوذ بالله ولا يرضى سواه ناصراً ومعيناً وليترنّم الكون ولتتلو الحياة ما نزل فيها من ذكر حميد في كتاب مجيد: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ وكان لآسية ما طلبت وما أرادت وما لأجله صبرت وقالت.