مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

يوكابد أم موسى عليه السلام العابدة .. تسليماً ورجاءً..


ولاء إبراهيم حمود


يقول الله جلّ وعلا في الآية السابعة من سورة القصص: بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ صدق الله العلي العظيم.

مرّة أخرى يرصدُ كتاب الله أمومةً متأزّمةً. وأمّاً تبحث عن نافذة خلاص، ولكن أم موسى سيدة مقالتنا هذه تختلف عن سواها من الأمهات اللواتي وردَ ذكرهنّ في القرآن بأنّ أزمة أمومتها أحاطت بها وهي تصارعُ آلام ولادة، مدّت على كلّ مواليد ذلك الزمن قراراً فرعونياً جائراً. من هي أم موسى؟ وما شأنها مع موسى ومع القرار الفرعوني؟. وكيف تعاطت مع ا ستحقاق أمومتها الخائفة المترقبة؟
في تاريخ الطبري: هي "يوخايد" من سلالة إبراهيم الخليل عليه السلام وعند ابن إسحاق: "هي يوكابد ابنة شموئيل بن بركيا بن بقسان بن إبراهيم الخليل".
هي زوجة عمران بن قاهت بن لاوي بن يعقوب. هي سليلة نبي وزوجة لحفيد نبي، وهي بعد أمّ نبي لأجله انتُخبت أمّاً وإلهة ومرضعة وحيدةً له.

مَنّ الله على يوكابد بالذّكر في سورتين من كتابه العزيز وذلك في سورة القصص وفي سورة طه، وما يلفت الانتباه في شكل الخطاب القرآني مع هذه السيدة أو عنها في السورتين كلتيهما بدأ سبحانه السياق بفعل ماضٍ لجمع المتكلّم. إعتدنا إختصاصه بالرجل دون النساء، وهو فعل "أوحينا" وقد ورد في الآية الثامنة والثلاثين من سورة طه: "إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى". نلاحظ هنا أنّ فعل الإيحاء، قد تكرّر بصيغتين مختلفتين وفي اختلافهما تكمن دلالةٌ مهمةٌ تدعم لقارئ النص شخصية أم موسى حيث تبدو امرأةً قد اختصها الباري جلّ وعلا بوحيه دون النساء جميعاً وذلك لأنّ المهمّة المناطة بها وحدها دون سواها تطلبت ذلك وليس ذلك على الله بغريب في اختلاف صيغة فعل الإيحاء من ماضٍ لضمير الجمع المتكلّم المعلوم. إلى مضارع لصيغة الغائب المجهول. وفي نفس السياق تأكيد بأنّ الله، قد اختصّ يوكابد بوحي لم يأتِها عن طريق تفكيرها وتمحيصها لحلّ مشكلتها أو مأساتها في ذبح وليدها. لأنّ القرآن الكريم لا يشير أبداً إلى حال تفكّر أو تدبّر عندها بل يُركّز على قلقها وخوفها، حيث أشار في الآية السابقة من سورة القصص ﴿لَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي﴾ . ومن المؤكّد أنّ حال الخوف عند الإنسان تشتّت أفكاره، بل وتُفقدِه صوابه أحياناً فكيف بإمرأة نُفساء لم تكن تملك من أمرها شيئاً وكان وليدها المقصود بالقرار الفرعوني الجائر، لأنّه مشروع نبي مرسل لمحاربة طغيان فرعون، فأوحى الخالق إلى أمّه ما يجب أن يوحى في مثل هذه الحالات، بحفظه وصونه بل وأكثر من ذلك هيأ له أسباب الحياة بأن جعله ربيباً لفرعون عدو الله وعدوه في آن. إنّ ما يؤكّد اختصاص أم موسى بوحي من الله لا كامرأة يوحى إليها كما الأنبياء رجالاً بل كأم لرضيع نبي لا يصلح لإنقاذه سواها، هو هذا التفصيل المتدرّج بدقّة وتخطيط لا تملكه أم موسى في حال نفاسها المحاط بالخوف والرعب لمصير رضيعها الذي كان شبه محتوم لولا إرادة الله وذلك في سياق سورة طه.

 إذاً لو لم تكن المسألة وحياً إلهياً خاصاً يقترب من الإلهام العادي للبشر ويفوقه قليلاً ليقترب من الوحي للأنبياء دون أن يوازيه أو يساويه لأنّها امرأة. وقد منع الله وحي النبوة عن النساء لحكمة منه سبحانه مجهولة منا وذلك في قوله تعالى في سورة يوسف:  ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون﴾َ  من دون هذا الوحي إذاً لما استطاعت أم موسى تنفيذ هذا الأمر دون تردّد، كما يتضح من سياق الآيات التي تعرّضت لهذا الموضوع لأنّها ما كانت لتأمن عليه من الموت غرقاً. أو اختناقاً في صندوق مقفلٍ لولا ميثاق إلهي يفوق مواثيق البشر منعةً وصواباً. إذاً اطمأنّت أم موسى لنجاة وليدها من كلّ الأخطار المحدقة به وبالكيفية التي أمرها الله بها عن طريق عاملين: أحدهما خارجي وهو وحي الله المتكفّل بصواب التفاصيل الدقيقة في الخطّة المرسومة إلهياً التي ضمنت كلّ احتمالات النجاة، فلا خوف عليه من الغرق وهو الوليد الذي غادر للتو عالماً مائياً في رحم أمه، وذلك عبر وضعه في تابوتٍ محكم الصنع من الخشب تكفّل الله سبحانه بتهيئة أسباب التنفس فيه حتّى حين خلاصه منه ولو كان محكم الأقفال، لذلك جاء الأمر الإلهي:  ﴿أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾.

وكذلك في الآية السابعة من سورة القصص حيث أشار عليها سبحانه وتعالى بتزويده بماء الحياة المشبع كي لا يجوع إبّان بُعده عنها وذلك عبر أول فعلٍ تقوم به المرأة بعد احتضانها وليدها وهو فعل إرضاعه وذكرُ هذا الفعل في أول السياق يؤكّد حال ذهولٍ عن أبسط الواجبات الطبيعية لكلّ أم، كانت تسيطر على أم موسى بحكم قرار فرعون الجائر بحق الرّضّع من مواليد ذاك العام: ﴿أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ﴾  وقد قدّم لها ضمانات لم تأتِها من تفكيرها أو تدبيرها ﴿وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ إنّ حال الذهول والخوف المتكرّر ذكرها في السورتين: القصص وطه يستلزم أمراً ما، ففي القصص (فإذا خفت عليه) وفي سورة طه:  ﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ يستلزم خرقاً لقانون الإيحاء الخاص بالرجال الأنبياء، لأنّه خوف كادَ أن يقتل رضيعاً أعدّه الله.. من نشوئه نطفةً، فعلقةً فمضغةً في رحم أمّه نبياً صاحب رسالةٍ وكتاب سماويين، لذلك أوحى الله ليوكابد، لا لتصبح نبيةً بين الرجال، بل لإنقاذ نبي كان لها وحدها دون سائر النساء في عصرها، شرف أمومتها له ومجد استعادته إلى قلبها النابض بالجوى والحب وذلك عبر عناية إلهية خاصّة استحقتها يوكابد تثبيتاً لإيمانها المطلق وثقتها بالله الذي تولى مهمة توجيهها عبر الإيحاء إليها دون وسيط تشك يوكابد به أو تفتقد فيه ضماناتٍ لا تتوفر إلاّ لدى ربّ العزّة، وهنا دور العامل الداخلي الثاني الذي نسعى للاقتداء به في شخصها الكريم وهو عامل الإيمان المسبق بالله وباللطف الخاص به من تنفيذ أوامره، دون نقاشٍ وباستسلام طوعي موقن بالخير في كلّ نتائجه.

وقفت يوكابد على مسرح السورتين محتفظةً بدور الأم الخائفة الحائرة، وقد أوحى الله مُخرجاً إياها من حيرتها وخوفها وقد نفّذت إيحاء الله، والنص القرآني لا يشير إلى تنفيذ هذه المهمّة، بل إلى نتائجها لأنّه كما يبدو في السياق لا حاجة لذكر هذا الأمر. فكلمة "التقطه" الواردة في الآية الثامنة من سورة القصص تتضمّن هذا المعنى حكماً. كذلك صفة الخطاب الموجّه إلى موسى في شبابه والذي يتعرّض للطف الله به صغيراً في التابوت، ولكن يوكابد تغيب عن مسرح الأحداث في سورة طه ولا يبقى لها فيها دورٌ في صنع الحدث، كما في مطلع السياق المختص بهذه الحادثة في هاتين السورتين بل يبقى لها دور التلقي في الآية الأربعين وتحديداً في: ﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ﴾ ولكن في سورة القصص ولأنّ حاجة السياق كما يبدو لتفاصيل أكثر دقّة إيضاحاً لموقف مستجد خلافاً لسورة طه، اقتضى سياق السرد في السورة غياب أم موسى برهة من الزمن رافقت فيها العناية الإلهية رضيعها كما رافقه سياق السرد في الآيتين الثامنة والتاسعة، في سورة القصص ليعود بنا إلى حيث تُركت أم موسى على ضفاف النهر والهة ملهوفة فارغة الفؤاد، بدقة متناهية ولبلاغة لا تضاهى صوّر لنا القرآن الكريم الحال النفسية الرهيبة التي عاشتها بكلّ ما تحرك فيها من خوف ورعب وذلك في قوله سبحانه في الآية العاشرة في سورة القصص: (وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً) إنّها الآن أسيرة إحساس عميق بالفراغ من حولها، وكأنّي بها قد شعرت أنّ حركة الحياة كلها قد توقفت ولم يعد يطرق أذنيها سوى صوت وجيب قلبها وخفقاته المتسارعة بفعل الخوف الذي عصف بها، بدت أم موسى هنا إنسانة طبيعية تحيا مشاعرها دون تفكير بمقاومتها ودون تصنّع أو مكابرة، وقد أوجز النص القرآني كلّ هذا بكلمة (فارغاً) وبقوله مباشرة (إن كادت لتبدي به) أي كادت تتورط في إعلان هوية الطفل الرضيع دونما حذر ولكنّها عادت مرّة أخرى لتتفيأ ظلال رعاية الله إنقاذاً للموقف في أصعب مراحله، وجاء النص القرآني مرّة أخرى يرعى ضعفها الإنساني الطبيعي ويبرزه بل ويجزيها عليه ثواباً وذلك في ما تبقّى في الآية  ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾  تلطف الإشارة هنا إلى أنّ هذه الحال أحاطت بأم موسى بعد أن وصلها خبر وقوع رضيعها بين يدي فرعون، لا بعد أن القته في اليم قبل أن تعود أدراجها مسلمةً أغلى ودائعها إلى خالقها، وهذا يتضح من سياق السرد الذي أشرنا إليه منذ لحظات، وفي سورة القصص حيث ذكر الله خوفها بعد ذكره لوصول الرضيع إلى قصر فرعون، لأنّ أم موسى لم تستحقّ كلّ هذه العناية من الله عبثاً.. فهي امرأة مؤمنة تثق بالله وبأنّه سيهيء لرضيعها كلّ أسباب الحياة ولو في صندوقٍ مقفل فوق سطح الماء، ولكنّها وبحكم بشريتها تجهل سرّ الخطّة التي استلزمت هدايتها لها، إيحاءً خاصاً ومؤقتاً وكانت تأمل في لا وعيها أن يلتقط رضيعها أي أحد، إلاّ شخصاً يمتّ بصلة لفرعون، فحدث ما خافته.

يضيق المجال عن الخوض في عمق هذه المسألة ليسمح لنا بالقول إنّ إرادة الله قد شاءت أن ينشأ موسى في قصر فرعون ليكون له عدواً وحزناً. وهذا ما لم تدركه أم موسى لتنتحب به عواصف الهلع، ومع ذلك بقيت أم موسى سيدةً تنعم بعناية الله في الحياة وفي كتابه الحكيم لتعلن لنا أنّ في الحياة ما يصح تسميته بالخوف الشجاع الذي لا يُلقي في نفس حامله إرادة المواجهة للظلمة مهما طغوا وقد استحقّت رعايته سبحانه حتّى أنّ حرّم على رضيعها المراضع مهيئاً بذلك أهمّ أسباب عودته إليها لتعلم أنّ وعد الله حقّ وليرتضع رضيعها منها وحدها دون سائر النساء، بل ولتنل على إرضاعه أجراً.

وقبل أن نغلق ستارة المقال على أمّ موسى يجدر بنا أن نذكر قول سيد المرسلين في أم موسى، هذا القول الذي لن يفهمه من كانت طينته مجبولة بالشراهة الصهيونية: مثل الذي يعمل ويحتسب في صنعته الخير كمثل أم موسى ترضع وليدها وتأخذ أجرها .. سلام الله على يوكابد، حين امتثلت لأمر الله وحين نعمت برعاية الله .. وحين ضربت لنا نحن اليوم مثالاً صالحاً في الثقة بالله.


 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع