سيبّن كاتب هذا المقال خواء المجتمع الأمريكي الذي وصل إلى أعل درجات القوة العسكرية والسياسية، وأن الحالة التي تعيشها أمريكا تنذر بعواقب وخيمة.
مجلة بقية الله تنقل هذا المقال إلى اللغة العربية بدون تصرّف سعياً منها لنقل الصورة الحقيقية لذلك المجتمع البرّاق.
كنت منذ عدة أشهر خلت، أتناول طعام الغداء، مع صديق لي يعيش الآن في آسيا، وخلال حديثنا تطرقنا إلى موضوع أميركا كما يراها الأجانب (غير الأميركيين). لقد رأى صديقي أنه في حين أن العالم ما زال يرى أميركا القوة العسكرية والاقتصادية الرائدة على الأرض، إلاّ أنه لم يعد ينظر إليها بعين الاحترام على صعيد الأخلاقيات.
العالم اليوم يشاهد انحطاط وتدهور المجتمع الأميركي.
ومؤخراً أخبرني سائق سيارة أجرة في واشنطن - وهو شاب إفريقي يدرس في الولايات المتحدة - أنه سيعود مباشرة إلى وطنه بعد استلام شهادته العلمية. والسبب؟ هو لا يريد لأولاده أن ينشأوا في بلد تكون فيه انتبه "هدفاً سهلاً" للشباب، وابنه هدفاً للعنف على أيدي الشباب الآخرين. ويقول "بلدي متحضر أكثر من هذه الأمور".
في السنة الماضية، تناولت الـ "واشنطن بوست" في مقالة لها موضوع تبنّي الطلاب الأجانب لأسلوب حياة الشباب المراهق الأميركي. فـ"يولينا" تلميذة بولندية تدرس في الولايات المتحدة، قالت أنها عندما أتت إلى هنا استغربت أسلوب حياة المراهقين في بادئ الأمر، "في دارسوا، كنا نعود إلى المنزل مباشرة بعد المدرسة، نتناول الطعام مع الأهل، ثم ندرس لفترة أربع إلى خمس ساعات. الآن أذهب إلى المطعم، أشاهد التلفزيون وأقوم بأعمال أقل في المدرسة. وأستطيع القول أنه من السيء التعود على هذه الأمور".
ومع أنني أكره غريزياً أولئك الذين ينتقدون شعبي إلاّ أنني مجبر على الاعتراف بصحة كثير مما يقولونه، ثمة مشكلة في مجتمعنا.
نعم، هناك عائلات، مدارس، كنائس، ومناطق تعمل بكد، لكن الفضيلة تكاد لا تكون موجودة.
خلال عملي، العام الماضي، بدراسة إحصائية للنزعات السلوكية عند الشعب الأميركي في العقود الثلاثة الماضية، كان مما وجدته:
منذ العام 1960 تضاعف الإنتاج الإجمالي المحلي ثلاثة مرات إلاّ أن نسبة الجرائم العنيفة زادت 560 بالمئة على الأقل. وزادت حالات الطلاق أكثر من الشعف. أيضاً، تضاعف عدد الأولاد الذين يعيشون مع أحد الوالدين (إما الأب أو الأم) ثلاث مرات. وبنهاية العقد سيكون 40 بالمئة من مجمل المواليد الأميركيين و80 بالمئة من مواليد الأقليات التي تعيش في أميركا أولاداً غير شرعيين.
الولايات المتحدة تقود العالم الصناعي في القتل، الاغتصاب والجرائم العنيفة، وفي نفس الوقت، يأتي طلابنا (في المراحل الابتدائية) في المراتب الدنيا في اختبارات المهارات العلمية والرياضية. لقد انخفضت منذ العام 1960، معدلات SAT في مدارسنا الثانوية 75 نقطة. سنة 1940، اعتبر الأساتذة أن المشاكل الأساسية في المدارس الأميركية هي: التكلم في غير الزمان أو المكان الصحيح، مضغ العلكة، إحداث الضجة، والركض في المباني، أما سنة 1990 فقد ذكر الأساتذة المخدرات، الكحول، الحمل، الانتحار، الاعتداء، والاغتصاب. وهذه أيضاً، أمور سيئة يجب ألاّ نعتاد عليها.
هناك نوع من القسوة، السخرية والرداءة تجاه زمننا، وأسوأ ما في ذلك يتعلق بالأطفال، فحضارتنا تبدو تقريباً مكرسة لإفساد الشباب.
في السنة الماضية. وزّع أحد المغنيين المتهمين بجريمة قتل أسطوانته التي تمجد تعاطي الماريجوانا (نوع من المخدرات) وانحطاط النساء الخلقي، ولقد ظهرت هذه الاسطوانة في طليعة أغاني الموسم، ماذا سيحدث عندما يستمع الأولاد الذين ينشأون دون أهل أو رعاية إلى هذه الأغاني باستمرار؟
وعلى شاشات التلفزيون، تعتبر العروض الغير محتشمة والفاضحة منقبة، بل فضيلة بنظر كل الأعمار. في الماضي كان التخلف عن القيام بالواجب الشخصي أو الرغبات الدنيئة الفاسدة دائماً ما يصاحبها الشعور بالذنب، أو على الأقل الصمت. أما اليوم فتعتبر هذه الأمور بطاقات للظهور في البرامج التلفزيونية. ففي فترة أسبوعين فقط تناولت هذه البرامج مواضيع اللباس الفاحش، العاهرات اللاتي يفخرن بعملهن، العلاقات الغرامية بين ثلاثة أشخاص والعلاقات الغرامية الأخرى الفاسدة. هذه البرامج تشير إلى مشكلة ذات حدّين: أناس يريدون عرض أنفسهم وأناس آخرون يريدون المشاهدة.
لقد اعتدنا على الفساد الحضاري الذي نعيش فيه، والمجتمع يفقد قدرته على إبداء المعارضة، الامتعاض أو الرفض. خلال أعمال شغب 1992 في لوس أنجلوس، صُوِّر أحد الأشخاص (د. ويليامز) وهو يسحق جمجمة رجل بريء بحجر بينما كان صديقه يحكم وثاق الضحية؛ عندما انتهى ويليامز من عمله رقص رقصة الانتصار! محامو ميليامز وصديقه قدموا دفاعاً قانونياً على أساس أن الناس لا يمكن أن يُتبروا مسؤولين عن أعمالهم إذا كانوا ضمن مجموعات غوغائية "أعتقد أنهما كانوا في المكان الخطأ في الوقت الخطأ" صرّح أحد المخلّفين، وعندما برىء هذان من معظم الفقرات الاتهامية، كانت أصوات الجماهير المسموعة أصوات ارتياح وليس غضب أو حنق.
هذا أمر سيء يجب ألا نعتاد عليه.
من نلوم على هذا التغيّر؟ الحقيقة المؤلمة هي أن ما نعيشه ليس حالة فرضت علينا، بل ما نحن صنعناه لأنفسنا.
البعض أوعز سبب ذلك إلى المادية، الإفراط في التساهل في المجتمع أو هو ميراث الستينات. هناك صحة في كل ما قيل تقريباً لكن برأيي، أزمتنا الحقيقية هي روحية - إنها فساد القلب.
مشكلتنا تكمن في كرهنا للأمور الروحية واهتمامنا المفرط بالأمور الدنيوية الظاهرية، لقد انغمسنا بالشهوات وبالأمور الخارجية وأهملنا كل ما يتعلق بالروح وواجباتها.
عندما سئل أحد الروائيين (والكر بيرسي) عن ما يهمه في مستقبل أميركا أجاب "ربما الخوف من رؤية أميركا، بكل قوتها وجمالها وحريتها تسير تدريجياً نحو الفساد نتيجة الإهمال، وتْهزم، ليس بالحركات الشيوعية، بل من الداخل، نتيجة الإرهاق، الملل، السخرية، الجشع، وفي النهاية العجز أمام مشاكلها الكبرى".
أنا أرى أن هذا اتهاماً واقعياً إلى حد القسوة، ولو كان تشخيصاً خاطئاً فلماذا، وسط هذا الازدهار الاقتصادي والأمن العسكري، يعتبر حوالي سبعين بالمئة من الرأي العام أننا ضللنا الطريق؟ أنا أسلم بأننا فقط إذا عدنا إلى الأمور الصحيحة - الأمور الروحية النبيلة الثابتة- ستكون حياتنا أفضل.
لقد عمّت، خلال العقد الأخير من القرن العشرين، معارضة الخوض في الأمور الروحية والدينية. ولقد اعتدنا على عدم الحديث في الأمور الأكثر أهمية، فالدين والإيمان أصبحا من الأمور الشخصية. لكن مهما كان دينك أو معتقدك - وحتى لو لم تكن مؤمناً - الحقيقة أنه عندما تتوقف الملايين عن الاعتقاد بالله، ستنتج عواقب اجتماعية وخيمة. ولقد نبهنا "دوستوفيسكي" أنه "عندما لا يكون الله موجوداً فكل شيي مباح". نحن الآن نرى هذا الـ "كل شيء".
* ماذا يمكن أن نفعل؟
كخطوة أولى علينا أن نربط كل سياساتنا الاجتماعية بمعتقداتنا العميقة.
نحن الآن نقول أمراً ونفعل آخر.
نقول أننا نريد النظام والقانون، لكننا نسمح بعودة المجرمين إلى الشوارع.
ندعو إلى إيقاف اللاشرعية، لكننا ندعم السلوك الذي يؤدي إليها.
نقول أنا نثني المراهقين عن الأعمال الجنسية، لكن المثقفون على امتداد أمريكا يتعاملون مع المراهقين على أنهم حيوانات صغيرة محتاجة ويقدمون لهم الوسائل الوقائية بدلاً من الإرشاد الأخلاقي.
نقول إننا نريد الحفاظ على الحية العائلية، لكننا نسهّل عمليات الطلاق.
نقول أننا نسعى إلى مجتمع أخوي "متعام عن الألوان" لكننا نستمر في إحصاء الناس على أساس العرق واللون.
وبعد، فأميركا بحاجة ماسة إلى إحياء الهدف الثقافي الذي يدعو إلى التربية الفكرية والأخلاقية للشباب. لقد قال أرسطو أن التربية الجيدة تصنع الرجال الجيدون. والرجال الجيدون يعملون بشرف.
وحتى بداية السبعينات، بقي هذا المعتقد سائداً لكن بابتعادنا عنه، أصبحنا نجني الزوابع. نحن نقول أننا نرغب بإحساس متمدن ومسؤول أكثر من أولادنا، لكن الكثير من المدارس يرفض تعليم الصح والخطأ. وهكذا ننادي بكثير من الشعارات "احترام الذات" "تذليل الصعوبات" وغيرها، دون أن نعمل لها كما يجب.
والأهم، يجب أن نعيد الدين إلى مكانه الصحيح. الدين يؤمن لنا الطريق الأخلاقي الصحيح، وبعد، لحل مشكلتنا الأساسية في الفقر الروحي تعتمد على الإحياء الروحي. لم يفسد مجتمعنا إلا بالابتعاد عن المعتقدات الراسخة في حياتنا العامة والخاصة.
اليوم، الكثيرون في مجتمعنا يحتقرون ويسخرون من الذين يحملون الإيمان محمل الجد. فالتعصب الوحيد الجدير بالاحترام في أميركا هو التعصب الأعمى تجاه الرجال المتدينين، والسبب الوحيد لكره الدين هو أنه يفرض علينا مواجهة كثير من الأمور التي نفضل تجاهلها.
أحد الكتاب الحائزين على جائزة نوبل قال يوماً: "أنا أرفض أن أصدِّق بنهاية الإنسان. الإنسان سيبقى لأنه الوحيد من بين المخلوقات يتمتع بالروح، النفس القادرة على التحمل، التضحية والعطف".
لقد رأينا، في زمننا هذا، أميركا تحقق أرباحاً طائلة - مستوى معيشة لم يكن يتصور منذ 50 سنة، مع تقدم غير عادي في مجالات الطب والعلوم والتكنولوجيا، فلقد ارتفع متوسط العمر المتوقع بحوالي 20 سنة العقود السبعة الماضية، والكثير ممن لم يحظوا بفرص حياتية توفرت لهم هذه الفرص الآن وبالطبع فقد انتصرت أميركا في صراعها القديم والطويل ضد الشيوعية.
اليوم يجب أن نتابع صراعاً جديداً من أجل البلد بحب. يجب أن نواجه بشدة الزمن الذي يواجهنا، فلو أمّنّا العمل للجميع وحققنا نمواً اقتصادياً أكبر - إذا أصبح لدينا مدناً من ذهب ومرمر - لكن لم يتعلم أطفالنا كيف يسلكون سبيل الخير، ستفشل التجربة الأميركية مهما ظهرت براقة ومغرية.
لا تستسلموا ، ثوروا، وادخلوا في المعركة.
* مقالة مترجمة عن مجلة المختار "Readers Digest" تحت عنوان "معاناة أمريكا الحقيقية".