حسن زعرور
ما يثير المرارة ويبعث على الألم، تشكيك بعض اللبنانيين بهوية مزارع شبعا، وهي باعتقادهم كما يبدو "مجموعة حظائر لإيواء الماعز والغنم"، لا تستأهل إثارة الكيان الغاصب أو استفزازه وخلق مواجهةٍ معه، فهل هكذا تقاس الأوطان؟ وهل هكذا تحتسب الوطنية والانتماء؟ لهؤلاء الذين تنقصهم المعرفة التاريخية والجغرافية عن وطنهم نقول: سادتي، نحن نتحدث عن 39 قرية ومزرعة مساحتها 192 كلم2 من الأرض اللبنانية الطاهرة تحتلها "إسرائيل"، وكل شبرٍ من ال 10452 كلم2 هو لنا 10452 كلم2 تقاس كرامة لبنان من خلاله.
* قرانا المحتلة
هل تعرفون هذه القرى؟... "النبي روبين، المشيرفة، صروح، معصوبة، حانوت، أدمت، جردي، عربين، أقرتْ، خربة الصوانة، خربة مروة، منصورة، سعسع، ديشوم، المنارة، المطلة، النخيلة، الصالحية، الدوارة، الخصاص، العباسية، دفنة، اللزازة، الناعمة، معسولة، الدحيرجات، الجردي، كفربرعم، الزاوية، الذوق التحتاني، الذوق الفوقاني، خان الدوير، شوقا، وأيضاً وأيضاً: تربيخا، شقيف الدولاب، البصة، ابل القمح، النبي يوشع، صلحا... ونسأل، سهل الحولة لمن واسمه يدل عليه، ولمن مراح الحلول، برختا، المشهد، الربعة، بيت البراق، كفردورة، حرف الغبرة، رمتا، بسطره، زبدين، قفوة، القرن، خلة غزالة، فشكول، المغر، مشهد الطير، حربيا، وادي العسل وأهلها اللبنانيون وحسرتهم عليها، وآلاف سندات الملكية والوثائق وصكوك البيع والشراء ووصايا الإرث من جد لحفيد، ونشكك؟!
بتاريخ 11-8-1961 أصدر وزير الزراعة آنذاك سليمان فرنجية القرار رقم 26 المتعلق بالأحراج والصيد في القرى اللبنانية، ومما جاء فيه:
البند الخامس: منطقة الدحيرجات المركز الدحيرجات، يتبعها القرى والمواقع الحرجية التالية: "الدحيرجات"(*)، المجيدية، حلتا، كفرشوبا، "مزرعة فشكول"، السلمية، "الخريبة"، الماري، راشيا الفخار، كوكبا، مزرعة عين فجور، دنبيه، كفرحمام، "صليب" الهبارية، الفرديس، أبو قمحة، حاصبيا، ميمس، الكفير، خلوات الكفير، عين قنيا، شويا، عين جرفا، "شبعا الوسطاني" "مراح الحلول"، "برختا"، "رمتا"، "الربعة"، "قفوا"، "زبدين"، "بيت البواري" السفينة، عين التينة(1)، فهل كان الوزير فرنجية لا يعرف الأراضي اللبنانية وحدود لبنان؟ لقد استغلت إسرائيل الحرب الأهلية (1975) وانشغال العالم عنها وسرقت الأرض، ثم جاء الخط الأزرق ليضفي شرعيته على قرصنتها، ونسكت عن حقنا وأرضنا خوفاً منها؟ أهذه هي الوطنية الحقة؟!
* عيون التاريخ
يتحدث ياقوت عن صفد وأنها "مدينة في جبل عاملة"(2)، أما اليعقوبي المتوفى سنة 904م فيشير إلى أن "الجليل وأهله قوم من عاملة"(3)، أما الهمداني فيؤرخ أن "عاملة في جبلها مشرفة على طبرية إلى نحو البحر، من السفوح المشرفة على وادي الأردن جنوباً إلى نحو البحر غرباً"(4). قدمت قبيلة عاملة بن سبأ إلى الأردن بعد انهيار سد مأرب في اليمن، ومنه عبرت واستقرت في الجليل وجنوبي لبنان قبل عام 332 قبل الميلاد وسمّيت المنطقة وعرفت على مدى التاريخ بجبل عاملة، ويذكر لنا مؤرخو الاسكندر الكبير كيف "قتل عرب عاملة 30 جندياً من جنود الاسكندر أثناء حصاره لمدينة صور"(5) والتاريخ يذكر كيف كانت جزين ومشغرة وتيرون وتبنين والجرمق وصفد درر عاملة ومقارها الفكرية والحضارية وقبلة طالبي العلم من كل الأصقاع، غير أن قدوم المماليك عام 1250م أدى إلى إقتطاع جباع وجزين وتيرون والجرمق وصفد منها، وأكملت الحروب الاقطاعية خلق جغرافية بديلة، وفي عام 1516م احتل العثمانيون سوريا عقب معركة مرج دابق وقسموها إلى ثلاث ولايات هي حلب، الشام وطرابلس، ثم اتبعت فلسطين بولاية الشام، وضمت ولاية فلسطين أربعة سناجق هي: صفد ونابلس والقدس وغزة وتكوّنَ لواء صفد التابع لعاملة من صفد وعكا وطبرية وصور وتبنين والشقيف وفي عام 1887م أقام العثمانيون ولاية بيروت وألحقوا بها صيدا وصور ومرجعيون ونابلس وعكا، استمر ذلك حتى عام 1918 ورحيل الأتراك عن بلادنا. في أيام فخر الدين الثاني (1635 1590م( الذي عين من قبل الأتراك والياً (أميراً) على الشوف ضمت بيروت وطرابلس والبقاع إليه وكان طموح فخر الدين إقامة دولة لبنان المستقل عن تركيا تحت حكمه، وعليه عمد إلى إحتلال صفد وطبريا والناصرة أي الحدود المعروفة للبنان الجنوبي، يؤكد ذلك أن فخر الدين وبعد عودته من النفي في توسكانة عام 1618م أعاد إحتلاله لصفد ونابلس وغزة وعجلون لإعلان دولته، غير أن العثمانيين هزموه وأعدموه مع أولاده في اسطنبول عام 1635م وقاموا بسلخ المناطق المذكورة عن عاملة من جديد. في عام 1770 برزت قوة ظاهر العمر في عكا، كانت عاملة وأقسامها الجنوبية تتبع سلطة "الشيخ ناصيف بن نصار الأحمد" ومقرّه في تبنين. حاول ظاهر العمر مدّ سلطته فاحتل البصة وتربيخا، "غير أن الشيخ نصار وحليفه الشيخ علي الفارس هاجموه في بلدة شقيف الدولاب وأجبروه على الفرار إلى عكا"(6)، والقرى الثلاث البصة وتربيخا وشقيف الدولاب محتلة من قبل الإسرائيليين اليوم، وتحت إحتلالهم قبور أجدادنا ودماء شهدائنا الذين دافعوا عن أرضهم مئات السنين، وأي تشكيك في قدسية وعظمة تضحيتهم هو خيانة لدمائهم ووطينتهم وأرضهم.
* إختلاف حدود لبنان الحالية
في عام 1822م عقد مؤتمر فيرونا للبحث في مسألة انحلال الإمبراطورية التركية الوشيك وتركتها. كان نابليون قد سبق في حساباته واحتل مصر (1801 - 1798) بهدف إيجاد موطئ قدم استعماري فرنسي يرث تركيا المريضة، ثم جاءت ثورة محمد علي (1840- 1830م) وحروبه مع تركيا واحتلاله للبنان وفلسطين لتفتح الباب واسعاً أمام البريطانيين والفرنسيين، وأتت حرب القرم بين روسيا وتركيا عام 1853م لتعطي الدولتين حجة حماية الأقليات المسيحية وبالأخص في لبنان الذي أنزل الجيش الفرنسي قواته فيه في آب 1860م، كما قامت بريطانيا باحتلال مصر )أيلول 1882م( بحجة حماية قناة السويس وطريق الهند. في الحرب العالمية الأولى، لم تكن حدود لبنان قد ظهرت إلى العلن غير أن معاهدة سايكس بيكو (1916) التي قسمت الامبراطورية العثمانية أعطت بريطانيا فلسطين والعراق وما عرف لاحقاً بالمملكة الأردنية، وحصلت فرنسا على كيليكيا وسوريا الساحلية والشاطئ اللبناني "إمتداداً حتى 15 ميلاً شمال حيفا وبحيرة طبريا"(7)، وهو اعتراف دولي بحدود لبنان الجنوبي التاريخية. في عام 1917 تعهدت بريطانيا بإقامة وطن قومي يهودي في فلسطين )وعد بلفور( ومارست المنظمات الصهيونية الضغط على القادة البريطانيين بهدف ضم مساقط المياه في لبنان إلى الدولة الموعودة، وهو حلم لم يتخلوا عنه حتى اليوم يظهر لنا ذلك من رسالة دايفيد بن غوريون إلى الجنرال ديغول "إن أمنيتنا الدائمة جعل نهر الليطاني الحدود الطبيعية لدولة إسرائيل"(8)، وإصرارها على إحتلال مزارع شبعا بسبب مساقط المياه الموجودة فيها وجودتها العالية. أدى الضغط الصهيوني على البريطانيين إلى خلافات بينهم وبين الفرنسيين. وفي 13 أيلول 1919 تقدمت بريطانيا باقتراح عرف باسم "إقتراح دوفيل"، وجاء في البند السادس منه "إن أماكن السيطرة البريطانية في فلسطين ستكون وفقاً للحدود القديمة)!!( من دان إلى بئر سبع)!!( على أن يضم إليها جنوب لبنان حتى خط نهر الليطاني" )لتلبية المطلب الصهيوني( ونلحظ كيف أن اقتراح دوفيل قد أكد أن حدود جنوب لبنان هي من دان إلى بئر سبع مطالباً بضمها مع نهر الليطاني إلى فلسطين المحتلة. كان رد لويد جورج الرفض مصراً على أن حدود لبنان هي من دان إلى بئر سبع. في 15 أيلول 1919 أقر مجلس الحلفاء اتفاقية سايكس بيكو وضرورة تنفيذها على الشكل التالي:
1- جلاء القوات البريطانية عن المناطق الشرقية والغربية وكيليكيا وتسليمها للقوات الفرنسية.
2 - تبقى دمشق وحمص وحماه وعمان والعقبة تحت حكم القوات العربية (فيصل).
ونتيجة الضغوط على فيصل، أجبر على الاعتراف باستقلال المناطق الساحلية من لبنان عن سوريا تحت الانتداب الفرنسي على أن تبقى منطقة البقاع منطقة محايدة. كانت فرنسا تسعى للسيطرة على لبنان وسوريا معاً غير أن قرار مجلس الحلفاء حرمها من تنفيذ مخططها بالكامل لذا عمدت للالتفاف عليه باتفاقات ثنائية مع بريطانيا وعقد إجتماع سان ريمو في نيسان 1920 للتنسيق بينهما وتنفيذ وعد بلفور، أعقبه إجتماع برتلو ممثل فرنسا واناستاز ممثل بريطانيا في 29 تموز 1920 حيث وافقت فيه فرنسا على تحويل منطقة الحولة المعروفة باسم جورة الذهب من لبنان إلى فلسطين مقابل غض بريطانيا النظر وتأييد احتلال الفرنسيين لدمشق. كان ردّ فعل الجنوبيين غاضباً وعقد مؤتمر الحجير في 24 نيسان 1924 برئاسة كامل الأسعد لمطالبة فرنسا بعدم اقتطاع أو سلخ أي جزء من لبنان عنه، غير أن الدولتين المناديتين بالشرعية لم تعبآ برد أصحاب الأرض والحقوق، ونتيجة التنسيق بين الدولتين والمنظمات الصهيونية تم إنشاء لجنة بوليه نيو كامب لرسم الحدود بين لبنان وفلسطين إنطلاقاً "من الناقورة إلى المطلة وبانياس" بحسب ما جاء في المادة الأولى للجنة. في 24 تموز 1921 إجتاح الجيش الفرنسي الأراضي السورية وحطم جيشها المنهك في ميسلون ثم دخل دمشق ضارباً بقرار مجلس الحلفاء عرض الحائط حول استقلال سوريا تحت حكم فيصل وسط صمت دولي وتأييد بريطاني، وردّ الفرنسيون للبريطانيين الجميل، ففي 3 شباط 1922 أقرت لجنة بوليه نيو كامب تعديلاً جديداً على الحدود نزولاً عند رغبة بريطانيا، وقضى التعديل بضم "كامل منطقة بحيرة الحولة والحمّة على نهر اليرموك وسهل الحولة وأصبع الجليل من لبنان إلى الأراضي الفلسطينية". وقع الكولونيل نيو كامب والكولونيل بوليه على الوثيقة المعدّلة وأرسلت إلى عصبة الأمم بتاريخ 10 آذار 1923 لتصبح وثيقة شرعية معترفاً بها دولياً!! وما يثير السخرية أمران، الأول أنه لم يكن للبنانيين أي دور في تحديد حدود وطنهم، والثاني أن القرصنة الفاضحة للدولتين تحولت مع الزمن إلى وضع مقدس لا يمكن المساس به تحت اسم "الخط الأزرق".
* شبعا أولاً وأخيراً
كلنا نؤمن أن لبناننا "قطعة سما" وأنه "أخضر حلو" غير أن آلاف الأناشيد التي تدغدغ مشاعرنا لن تستطيع أن تخفي الحقيقة أقله لمن يؤمن بهذه الحقيقة على مرارتها من أن لبناننا بحدوده المنقوصة هو وطن ناقص السيادة، وأنه من دون أرضه في شبعا وقراها إن هو إلا وطن مركّب على قياس مصالح دولتين مستعمرتين فرضتاه علينا فرضاً بحدوده المصطنعة. لقد خاضت فرنسا وبريطانيا حربين عالميتين مع ألمانيا بسبب الخلاف على الحدود معها، حربين قتل فيهما ملايين الناس، وعُدّت الحرب على فظاعتها وهمجيتها حقاً مشروعاً للدولتين في الدفاع عن أرضهما، فهل يتجزأ الحق؟ ولماذا لا يحق لنا استرجاع أرضنا ويحق لهم؟ ولماذا يرفضون التخلي عن أرضهم ويطالبوننا باسم أكذوبة شرعيتهم بقبول الأمر الواقع؟
(*) الأسماء الواردة بين قوسين أراض احتلتها إسرائيل حتى عام 1978.
(1) منيف الخطيب مزارع شبعا ص57، صادر عن شركة المطبوعات.
(2) ياقوت الحموي، معجم البلدان، دار صادر.
(3) أحمد بن واضح اليعقوبي، البلدان، طبعة النجف.
(4) الحسن بن أحمد الهمداني، الإكليل، طبعة القاهرة.
(5) السيد حسن الأمين، جبل عامل، ص49، دار الأمير.
(6) الشيخ محمد تقي الفقيه، جبل عامل في التاريخ، ص270.
(7) د. عصام خليفة، لبنان المياه والحدود، ص23 و: زين نور الدين، الصراع الدولي في الشرق الأوسط، دار النهار.
(8) مذكرات وايزمن.