* وجوه البلاء:
إن البلاء هو الاختبار والامتحان، في الحسن والقبح... وعلى أي حال إن كلَّ ما يمتحن به الحق جل وعلا عباده يدعى بلاءً أو ابتلاءً سواءً كان بالأمراض والأسقام والفقر والذل وإدبار الدنيا وبما يقابل هذه الأمور، كأن يُختبر بكثرة الجاه والاقتدار والمال والمنال وبالزعامة والعزّة والعظمة. ولكن متى ما ذكر البلاء أو البلية أو الابتلاء بصورة مطلقة انصرف البلاء إلى القسم الأوّل.
* فلسفة الابتلاء:
اعلم أن كل عمل يصدر من الإنسان، بل كل ما يقع منه في عالم ملك الجسم، وكان مدركاً للنفس، يترك أثراً لدى النفس، من دون فرق بين الأعمال الحسنة أو السيئة، ومن دون فرق بين أن يكون العمل من نوع الأفراح أو نوع الأتراح. وقد عُبِّر عن هذا الأثر في الأخبار "بنقطة بيضاء" و"نقطة سوداء" مثلاً، إن كلّ لذة مما يلتذ الإنسان به من المطعومات أو المشروبات أو المنكوحات أو غيرها، يترك أثراً في النفس، ويحصل تعلقاً ومحبة في عمق الروح تجاهه الشيء الذي تمتّع فيه ويزداد توجه النفس إليه، وكلّما توغل في اللذائذ والمشتهيات أكثر، ازداد تعلق النفس وحبها لهذا العالم أكثر، وغدا ركونه واعتماده على هذا العالم أكبر، فتتربى النفس وترتاض على التعلق بالدنيا. وكلّما كانت المتع في ذائقته أحلى، كانت جذور محبّة الدنيا في قلبه أكثر. وكلما توفرت وسائل العيش، والعشرة والراحة بشكل أوفى، أصبحت دوحة التعلق بالدنيا أقوى، وكلما أقبلت النفس على الدنيا أكثر، كلما كانت غفلته عن الحق وعالم الآخرة أكثر. فإن نفس الإنسان إذا ركنت إلى الدنيا كلياً وصار توجهها مادياً ودنيوياً، انصرف عن الحق المتعال ودار الكرامة نهائياً و ﴿َخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاه﴾ (الأعراف/176) فالانهماك في بحر اللذائذ والمشتهيات يصرف الإنسان إلى حبِّ الدنيا من دون اختيار، وحب الدنيا يوجب النفور عن غيرها، والإقبال على الملك الماديات يسبب الغفلة عن الملكوت عالم الغيب وكذلك العكس فلو أن الإنسان استاء من شيء وشعر ببشاعته، استدعت صورة ذلك الشيء الكراهية والنفور، وكلما كانت تلك الصورة في النفس أقوى كان النفور والانزجار أكثر.
فمثلاً: إذا دخل شخص على بلد وابتلي بأسقام وآلام فيه وعانى من ورائه مشاكل داخلية وخارجية لَكرهَه وتنفّر منه وكلما كانت معاناته أكثر كان هروبه ونفوره منه أكثر وإذا وجد مدينة أفضل منه لأقبل عليها وإن لم يستطع التحرك نحوها، لاشتاق إليها وتوجّه قلبه نحوها، فالإنسان إذا عاش هموم الدنيا وآلامها وأسقامها ومشاكلها وعناءها وشعر بأن أمواج الفتن والمحن تزحف نحوه، خفّ تعلقه بها أي الدنيا وقلّ ركونه إليها ونفر قلبه منها. وإذا اعتقد بوجود عالم آخر، وفضاء رحب فارغ من جميع أنواع الشقاء والتعاسة، ارتحل إليه، وإذا لم يتمكن من السفر بجسمه لذهب بروحه وبعث بقلبه إلى ذلك العالم. وواضح جدّاً أن المفاسد الروحية والخلقية والسلوكية بأسرها تنجم عن حبّ الدنيا والغفلة عن اللَّه سبحانه وعالم الآخرة، وإن حب الدنيا رأس كل خطيئة.
في حين أن الصلاح الروحي والخلقي والسلوكي ينبعث من التوجه نحو الحق، ودار الكرامة عالم الآخرة ومن اللامبالاة بالدنيا وعدم الانبهار بزخارفها. إذا علمنا من هذا التمهيد بأن لطف الحق تبارك وتعالى وعنايته كلما شملت لشخص أكثر، ووسعته رحمة الذات المقدّسة بصورة أوفى، كلما أبعده سبحانه عن هذا العالم وزخرفه أكثر.. حتى تنقلع رغبته في الدنيا وزركشتها، ووجّه وجهه حسب مستوى إيمانه إلى عالم الآخرة وارتبطت روحه بذلك العالم. وإن لم تكن جدوى من احتمال شدائد المحن إلا هذه الجهة الانزجار والإعراض عن الدنيا والإقبال نحو الآخرة لوحدها، لكفى.
ومن فوائد شدّة ابتلاء الخواص من العباد، أن هؤلاء من خلال المحن والمعاناة يذكرون الحقّ ويناجونه ويتضرّعون على أعتابه المقدسة في ساحة ذاته الأقدس ويعيشون مع ذكره وفكره، ومن الطبيعي أن نوع بني الإنسان يتشبث حين الشدّة بكل ما يرجو فيه النجاة، وعند الرخاء والراحة يغفل عنه. ولما كان الخواص من العباد لا يعرفون ملجأ إلا الحق، توجهوا نحوه، وانقطعوا إلى مقامه المقدس، وإن الحق المتعال يوفر لهم سبب الانقطاع إليه من خلال عنايته الخاصة بهم. ... ومن فوائد شدَّة ابتلاء المؤمنين حسب ما أشير إليها في الأخبار، أن لهم درجات لا ينالونها إلا من وراء المصائب والأسقام والآلام.