هادي قبيسي
ذلك المساء كان الجميع في انتظار هشام وتيسير، توجها منذ ليلتين نحو بنت جبيل حيث كانت ستتقدم جحافل الإحتلال، لزرع بعض العبوات على الطريق قبل وصول الدبابات. غير أن إحساساً غريباً راودني خلال الوضوء. خرجت إلى دشمة الحراسة عند باب المغارة، وكانت أصداء الأذان من مساجد القرى المتناثرة في الأسفل تتردد بين الوديان والأفق الممتد حتى الساحل، تحت آخر أنوار الشمس التي أفلت.
كان أبو حسن جالساً عند الدشمة والسبحة في يده، وبدأت نسائم المساء الباردة تنسل من بين الأشجار. أشعر أن مكروهاً قد أصابهما. لم يبق إلا ساعات على عودتهما. أين سقطت القذائف طيلة نهار أمس، هل تعرضت بنت جبيل؟ ربما فقط تلة مسعود وبعض التلال المحيطة بها. خير إن شاء الله.. عدت إلى المغارة، وأمام شمعة أنارت الغرفة فتحت كتاب الدعاء ودعوت لهما ثم أديت الصلاة، ورحنا نعد طعام العشاء. وأقبل أبو حسن مستعجلاً: لقد وصل اليهود إلى بنت جبيل، تكلم تيسير على اللاسلكي، هم في اشتباك.. هيا يا شباب إحملوا صواريخكم ولنتكل على الله. حملنا أعتدتنا وأسلحتنا ومشينا في الوديان حتى منتصف الليل، والطائرات تغير بين الفينة والأخرى على شتى القرى والمزارع، وقذائف المدفعية لا تتوقف محدثة بانفجاراتها وميضاً كالبرق. اتصل تيسير من وسط الإشتباك قائلاً بصوت ضعيف: لقد أصبت في شتى أنحاء جسدي.. لن أصمد طويلاً... لا زال هشام يقاتل.
رحنا نهرول متناسين ثقل الأعتدة على ظهورنا، علنا ندركهما. اقتربنا من بنت جبيل، بدأت القذائف تتساقط في كل زاوية، وكل مفترق وتلة وواد، وكان باستطاعتك أن ترى وسط الظلام الدامس بعض منازل البلدة إثر انفجارها. مشينا بإزاء الطرف الشرقي للبلدة، بين المنازل، ولاحت من هناك، أمامنا، مدفعية الدبابات الرابضة في تلة مسعود، وهي تطلق نارها في شتى الإتجاهات. قال أبو حسن: علينا أن نجد مكاناً لإطلاق الصواريخ.. هه.. هنا من بين أشجار الزيتون هذه. تقدمنا نحو الأشجار، خلعنا حقائب الظهر المحملة بالصواريخ، ووضعنا القواذف على الأرض، وخلال نصف ساعة، لم يتوقف فيها القصف من الأرض والجو، أصبحت الصواريخ جاهزة. علي، إتكل على الله، لديك صاروخان حدّد هدفك بدقة وارمِ عندما تتأكد. تطلعت من المنظار، فلاحت خمس دبابات رابضة بين الصخور، وبنداء يا زهراء أطلقت الصاروخ الأول نحو إحداها فأصابها محدثاً انفجاراً قوياً تبعته انفجارات متلاحقة واشتعلت الدبابة منيرة ما حولها وأصبحت باقي الدبابات ظاهرة للعيان على بعد خمسمئة متر. حينها بدأ أبو حسن وجوشن ومحسن بإطلاق صواريخهم التي أصابت الدبابات الباقية. وقال أبو حسن:
بسرعة لنحمل القواذف وننسحب من الكرم، سيبدأ القصف. وما أن أنهى كلمته حتى سقطت خمس قذائف دفعة واحدة على بعد عشرة أمتار، وكنت تسمع وشوشة الشظايا على الجذوع والأغصان. حملنا القواذف وانطلقنا مسرعين نحو أقرب منزل، وتركناها هناك. فيما ظلّ القصف ينهمر على كرم الزيتون، ونظرنا إلى الخلف لنجد النيران قد أتت على بعض أشجاره. جلسنا برهة بجانب المنزل، وكان أبو حسن واضعاً يديه على أذنيه بشكل بوق، محاولاً استراق الصوت بين شلال القذائف المنهمر. ثم قال: أسمع أصوات اشتباكات لجهة صف الهوا. أين هشام؟ حاول الإتصال به.. هشام.. هشام.. أين أنت؟ لعله التحق بتيسير.. لن يستطيع العيش دونه. أبو حسن.. معك هشام .. بدّل. لا زلت حياً.. لك سبع أرواح.. إنهم يحيطون بي من كل جانب.. أنا عند صف الهوا.. بقي من الرصاص القليل. نحن قادمون. رحنا نركض لنسبق الزمن، ووصلنا، بعد إعياء شديد، قريباً من صف الهوا، حيث كان بإمكانك أن تسمع رشاشاً يطلق عدة طلقات لتبادله زخة مجنونة من الرصاص، إنه هشام.. هكذا قال الجميع. تابعنا راكضين نحو مصدر الصوت، وما أن دلفنا إلى الطريق الإسفلتي حتى سقطت قذائف الدبابات على بعد أمتار أمامنا، فعدنا إلى الزواريب، والتففنا حول الطريق، وبدأ الرصاص ينهمر علينا من كل جانب. على بعد خمسين متراً، كان رشاش هشام لا يزال يطلق النار، كان وحيداً وسط معمودية النار، يتحرك بين المنازل محاولاً الإحتماء من زخات الرصاص. صرخت بكل قوتي:
ه... ش...ا...م وركضنا نحوه، مطلقين النار زخة واحدة على اليهود، حتى وصلنا إليه، كان مصاباً في أنحاء جسده، وقال بصوت خفيض لا يكاد يسمع وسط تصخاب القذائف والرصاص: لقد زرعنا العبوات.. قرب بيت أبي حسان.. المفجر في جعبتي، خذوه.. أنا في الطريق، لن أبقى هنا. أين تيسير لقد أصيب إصابات عديدة... قرب المستشفى. أخذت المفجر، وضعته في جيبي، وقال أبو حسن: هيا قبل أن يصلوا إلينا. رحت أنا وجوشن إلى يسار المنزل، فيما راح أبو حسن ومحسن إلى اليمين، بعد أن توافقنا على ألا ننسحب حتى نستشهد جميعنا. فتحنا القنابل وألقيناها نحو الجنود، ثم تقدمنا بين الأشجار مطلقين النار تجاه كل شرارة تظهر أمامنا في الظلام، حتى صرنا على مقربة منهم، فيما كان أبو حسن من الجانب الآخر يطلق قذيفة آر بي جي، علا بعدها صراخ الجنود، وأبصرت أحدهم يركض محترقاً، فلم أطلق النار عليه. وأبدلنا مخازن الرصاص، ورحنا نتقدم من صخرة إلى أخرى وبين الأشجار حتى أبصرت حوالي عشرين جندياً متكومين حول بعضهم في الظلام، وهم يتكلمون العبرية. تمهلت قليلاً، ورحت إلى جوشن. فتحنا قنبلتين، ورميناهما بينهم، وعلا صراخ ثم انفجاران تطايرت بفعلهما بعض الأشلاء، وانهالت عليهم زخات الرصاص. وكنت تسمع عويل الجنود الآخرين وهم يبتعدون عن التلة. كانوا قد ولوا الأدبار. صرخ أبو حسن: لنذهب إلى تيسير.. علنا نستطيع سحبه. التففنا لنبتعد عن مكان الإشتباك حيث كانت القذائف قد بدأت تتساقط بالعشرات، وذهبنا مسرعين إلى تيسير. ودّعنا بكلمات عاجلة وفارقنا. حملنا جثته المليئة بالجراح، ودلفنا نحو الوادي فيما كانت بوادر الفجر قد أطلت. وضعنا جثته تحت إحدى الأشجار، ثم رحنا، لنأتي بالشهيد الآخر. تحلّقنا حولهما. بكينا. ثم توافقنا من جديد على ألا نعود إلا محمّلين.