إعلم أن كلاً من القوى الظاهرية والباطنية من النفس قابل للتربية والتعليم بارتياض مخصوص، فعين الإنسان مثلاً لا تقدر أن تنظر إلى نقطة معيّنة أو إلى نور شديد، كنور عين الشمس، مدة طويلة من دون أن تغمض. ولكن، إذا ربّاها، كبعض أصحاب الرياضات الباطلة لمقاصدهم، يمكن أن تنظر إلى عين الشمس ساعات مديدة من دون أن يغمضها صاحبها أو يجد فيها تعباً. وكذلك، يمكن له أن ينظر إلى نقطة معيّنة ساعات، من دون أية حركة. وكذلك سائر القوى حتى حبس النفَس، فإن في أصحاب الرياضات الباطلة أفراداً يحبسون أنفاسهم مدة زائدة عما هو متعارف عليه. ومن القوى التي تقبل التربية: قوة الخيال أو القوة الواهمة. فإنها قبل التربية كطائر فرّار ومتحرك بلا نهاية، يطير من غصن إلى غصن، ويتحرك من شيء إلى شيء آخر، بحيث إن الإنسان إذا حاسبها دقيقة واحدة يرى أنها انتقلت بتسلسل إلى أشياء متفرقة، وارتباطات غير متناسبة حتى ظنّ كثير من العلماء أن حفظ طائر الخيال وجعله طائعاً من الأمور الخارجة عن حيّز الإمكان، ولكن الأمر ليس كذلك، ويمكن تطويعه بالرياضة، والتربية، وصرف الوقت بحيث يكون طائر الخيال في قبضته، لا يتحرك إلا بإرادته واختياره.
* حفظ الخيال حين الصلاة:
والطريق العمدة لهذا التطويع هو العمل على الخلاف. وطريقه، أن الإنسان حينما يريد أن يصلّي يهيئ نفسه بأن يحفظ خياله في الصلاة، وبمجرد أن يريد الخيال أن يفرّ منه يسترجعه فوراً، ويلتفت إلى حاله في جميع حركات الصلاة، وسكناتها، وأذكارها وأعمالها. وهذا في أول الأمر ربما يبدو أمراً صعباً، ولكنه إذا عمل فيه مدة بدقة وعلاج يصير طائعاً حتماً، ويرتاض على الإطاعة. فأنت لا تتوقع أن تتمكن منذ البداية من حفظ طائر الخيال في جميع الصلاة، فإن هذا أمر غير ممكن، ومحال البتة. ولعل الذين ادّعوا استحالة هذا الأمر كانوا يتوقّعون ذلك، ولكن هذا الأمر لا بد أن يكون بكمال التدريج والتأنّي، والصبر والتأمل، فيمكن أن يحبس الخيال في أول الأمر في عُشر من الصلاة ويحصل حضور القلب في عُشر منها. وبالتدريج إذا كان الإنسان بصدده ويرى نفسه محتاجاً إليه فإنه يصل إلى نتيجة أكثر. وشيئاً فشيئاً، يتغلّب على شيطان الوهم وطائر الخيال، بحيث يكون زمام الاختيار بيده. في أكثر حال الصلاة وعلى الإنسان ألاّ ييأس، فإن اليأس هو المنبع للوهن والضعف كله، ونور الرجاء في القلب يوصل الإنسان إلى كمال سعادته، ولكن العمدة في هذا الباب هو حسّ الاحتياج الذي هو فينا قليل. وإن قلوبنا لم تؤمن بأن رأس المال في سعادة العالم الآخر ووسيلة العيش في الأيام غير المتناهية هو الصلاة. نحن نحسب أن الصلاة أمر مفروض علينا، ونراها تكليفاً وتحميلاً. إن حبّ الشيء يحصل من إدراك نتائجه، فنحن نحب الدنيا وما أدركنا نتيجتها وآمنت قلوبنا بها. ولهذا، لا نحتاج في اكتساب الدنيا إلى الدعوة والوعظ والاتعاظ.
* أين الدنيا في دعوة الأنبياء؟
وإنّ الذين يظنّون أن لدعوة النبي الخاتم والرسول الهاشميّ صلى الله عليه وآله جهتين دنيوية وأخروية، ويحسبون هذا فخراً لصاحب الشريعة وكمالاً لنبوّته، فهؤلاء ليس عندهم معرفة بالدين، وهم عن مقصد النبوّة ودعوتها غافلون. إن الدعوة إلى الدنيا خارجة عن مقصد الأنبياء العظام بالكلّية، ويكفي في الدعوة إلى الدنيا حسّ الشهوة والغضب والشيطان الباطن والظاهر ولا تحتاج إلى بعث الرسل. إن إدارة الشهوة والغضب لا تحتاج إلى القرآن والنبي، وإنما الأنبياء بعثوا لينهوا الناس عن التوجّه إلى الدنيا وإنهم ليقيّدون إطلاق الشهوة والغضب ويحدّدون موارد المنافع. والغافل يظن أنهم يدعون إلى الدنيا. إن الأنبياء يقولون إن المال لا يجوز تحصيله كيفما كان، ونار الشهوة لا يجوز إطفاؤها بأيّ نحو، بل لا بدّ من إطفائها عن طريق النكاح، وهكذا تحصيل المال، فلا بدّ أن يكون عن طريق التجارة والصناعة والزراعة، مع أن في أصل الشهوة والغضب إطلاقاً، فالأنبياء يصدّون طريق إطلاقهما لا أنهم يدعون إلى الدنيا، فروح الدعوة إلى التجارة هي التقييد والنهي عن الأكل بالباطل، وروح الدعوة إلى النكاح هي تحديد الطبيعة والنهي عن الفجور وعن إطلاق قوة الشهوة.
نعم، إنهم عليهم السلام ليسوا مخالفين على الإطلاق، فإن المخالفة على الإطلاق مخالفة للنظام الأتمّ. وبالجملة، نحن لما أحسسنا الاحتياج إلى الدنيا وجدناها رأس مال للحياة ومنبعاً للّذات نتوجّه إليها ونسعى في تحصيلها، فإذا آمنّا بالحياة الآخرة وأحسسنا أنّا محتاجون إلى العيش هناك، والعبادات كلها والصلاة على الخصوص رأس مال للعيش في ذلك العالم ومنبع لسعادات تلك النشأة، فلا محالة نسعى في تحصيله ولا نجد لأنفسنا في هذا السعي والاجتهاد أي تعب أو مشقة أو تكلّف، بل نكون في صدد تحصيله مع الاشتياق والشوق الكامل ونحصّل شرائط حصوله وقبوله بإقبال من أرواحنا وقلوبنا، فهذه البرودة التي فينا إنما هي من برودة أشعة الإيمان، وهذا الوهن الذي نجده إنما هو من وهن أساس الإيمان، ولو كانت أخبار الأنبياء والأولياء عليهم السلام وبراهين الحكماء والعرفاء عليهم الرضوان أوجدت في أنفسنا مجرد الاحتمال بالصدق لكان اللازم علينا أن نقوم بالأمر ونجتهد في تحصيله بأحسن مما نحن فيه. ولكن مع الكثير من الأسف المتكرر فإن الشيطان قد تسلّط على باطننا وتصرّف بمجامع قلوبنا ومسامع باطننا، وهو لا يدع كلام الحق وأنبيائه وكلمات العلماء ومواعظ الكتاب الإلهي تصل إلى سمعنا، فسمعنا الآن إنما هو السمع الحيواني الدنيوي، ومواعظ الحق تعالى لا تتجاوز الحد الظاهر، ولا تصل إلى الباطن، إلا لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
* لا مجاهدة دون عون الباري تعالى:
ومن الوظائف المهمة للسالك إلى الله والمجاهد في سبيل الله أن يرفع اليد بالكلية في خلال مجاهدته وسلوكه عن الاعتماد على نفسه ويكون بجبلّته متوجهاً إلى مسبّب الأسباب، وبفطرته متعلقاً بمبدأ المبادئ، ويطلب من ذاته المقدسة العصمة والحفظ، ويعتمد على تأييد ذاته الأقدس، ويتضرع في خلواته إلى حضرته ويطلب إصلاح حاله، مع كمال الجد في الطلب منه تعالى، فإنه لا ملجأ دون ذاته المقدسة، والحمد لله.