إعداد: جعفر فارس
المؤلف: آية اللَّه الشهيد مرتضى مطهري
الناشر: دار المحجة البيضاء ودار الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله
يتضمّن الكتاب بابين يتفرّع أحدهما عن الآخر في وحدة تجمع بين عناصر عالم العلم وعالم العمل بقلم مؤلف شهيد.
* العبادة كيف؟ ولماذا؟
في البداية يستهل المؤلف البحث، معنوناً ب"روح العبادة" حيث يدعونا إلى أن الطبيعة الأصيلة للعبادة يمكن اكتشافها والاستدلال عليها بعملية سير واستقراء تاريخي للمعتقدات البشرية بأشكالها المختلفة لندرك أثناء التقصي أن لهذه الصيغة الاعتقادية جذوراً موغلة في القدم وتمثل جامعاً مشتركاً بين المجتمعات إلا أنها تفترق فيما بينها حول طبيعة هذا المعبود وكيف ولماذا يُعبد؟ وبناءً عليه يستنتج المؤلف أن مظاهر الطقوس الفردية والجماعية في المجتمعات البدائية أو القبلية أو المدنية والحضارية الراهنة، كلها جميعاً تعكس بالضرورة كبرى واقعية المعبود والعبادة، إنّما يبقى الاختلاف في صغرى منشأ هذه الطبيعة أو الفطرة وطريقة التعبير عنها. إضافة إلى هذا يستأنس المؤلف بخلاصة علماء الأديان في أبحاثهم حول مصادر الاعتقادات الدينية والطقوسية التي توارثتها الشعوب حيث أكدّوا على عمومية الشعور بالعبادة والحاجة الشديدة إليها بالنسبة إلى مطلق بني البشر.
* فطرية العبادة
بعد هذه المقدمات التوضيحية حول العبادة ومنشأها يثبت لنا المؤلف أنها فطرية وهذه الفطرة لا تكتمل وتتجلّى تماماً إلا إذا تعلّقت وتوجهّت إلى معبود واحد منزّه عن كل صفات النقص. وبهذا الشرط تنفتح أبواب المعرفة بجوهر العبادة حيث يترقى الإنسان إلى أن هناك مثال أعلى حقيقي ليس كمثله شيء يستحق أن تتوجه الفطرة إليه وحده لأن كل صفات الكمال والجلال تعود إليه بالأصل ولغيره بالعرض. على هذا الأساس يتوسع بنا المؤلف في بقية المسائل التي ترشحت عن هذا الموضوع، حيث تتموضع مفردات ومعاني العشق والحب والمشاعر والأخلاق والوجود في موضعها الصحيح والمتناغم مع روح العبادة وطهارة الروح. فلا يصبح العشق حالة منحرفة تتعلق بإنسان فانٍ أو مثال مصطنع الخ. وإذا كان العشق سراً لا ينتهي فإنه يتعلق ويستلزم معبوداً ومعشوقاً لا نهائياً. وقد أشار المؤلف في هذه المسألة إلى أعلام الكلام والحكمة في التاريخ الإسلامي كابن سينا وصدر المتألهين ونصير الدين الطوسي الذين بحثوا في رسائلهم ظاهرة العشق ثم استخلصوا في نهاية التحليل أن "المحبوب الحقيقي للإنسان حقيقة غيبية تتحد معها روح الإنسان... والمحبوب الحقيقي الذي يكمن في الواقع في أعماق الإنسان... هو الذات الإلهية المقدسة وهو متى ما أحب شيئاً آخر حبّاً روحياً فإنما هو إحياء لذلك الحب الذي هو حب الذات الإلهية...".
* العبادة في جميع تفاصيل الحياة
يشير المؤلف أنه بهذا التصنيف يتضح الفرق بين مسألة الحب ومسألة الشهوة فالحب لا يعكس مصلحة ذاتية في حين أن الشهوة تتطلب هذه الأنانية فهي علاقة بين طرفين أو أكثر يرغب كل منهم أن يستحوذ على الآخر ويسخّره لطلباته. خاصية الحب الروحي أنه يدفع بكل المشاعر اللاواعية فينا والراكدة في أعماقنا إلى الخارج أي إلى عالم الوعي، لتصبح أخلاقنا العلمية والعملية كلها في خدمة الإله الحقيقي ومتوجّهة إليه بالعبادة في كل تفاصيل حياتها. بل إن كل شيء في الوجود هو مبعوث في سبيل هذه المحبّة للَّه تعالى ويسير نحوه شعرنا أو لم نشعر بذلك لأن كل حركة فيه تبحث عن اللَّه، وهذا ما تفيده الآيات القرآنية الشريفة التي يستعرضها البحث.
* روح العبادة
أما الباب الثاني في الكتاب فهو تبعاً لعناوينه التفصيلية يعتبر مبحثاً تطبيقياً لمجمل آراء المؤلف في باب "روح العبادة". فقد ضمّت عناوينه مفردات عملية كالعهد والتكليف والتعلم، والتفكّر والولاية والتوحيد، ومصاديق الشرك، وهي كما نلاحظ مفاهيم إسلامية وقرآنية ثمرتها في العمل بها. لذلك ابتدأ المؤلف البحث بالتذكير أن الشغل الشاغل للأنبياء عليهم السلام هو تأصيل عبادة اللَّه الواحد الأحد وتطبيق هذا المفهوم في حياة الناس والعبادة إذن وفاء بالعهد الإلهي الذي قطعه على الجميع ليعبدوا اللَّه وحدهُ ويعملوا على محاربة الشيطان، وهي أيضاً تكليف يستلزم تحمّل الأعباء والمهمّات التي بإمكان الإنسان إنجازها لبلوغ السعادة، مثل إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشرط نية الإخلاص في القصد والعمل باعتبارهما علامة وأمارة على الإيمان والعبادة الحقيقية أما بقية الأفعال الأخرى الخالية من هذا المعنى القدسي، فإنها جميعاً تصنّف ضمن دائرة الشرك حتى لو ارتبطت بمظهر التوحيد. معنى ذلك أن التقديس بشقّيه اللفظي والعملي لا تعلّق لهما إلا باللَّه تعالى، وما يبدو من مظاهر التقديس لدى الشعوب والقبائل والحضارات المؤلهة لظواهر الكون والطبيعة ما هو إلا شكل من أشكال التقديس المنحرف الذي ضلّ عن الفطرة، والمقدَّس الحقيقي الذي هو اللَّه تعالى.
* أنواع العبادات
من خلال هذا التأمل والتدبر في المفاهيم الإسلامية يكتشف المؤلف ثلاثة أنواع لمعنى العبادة وهي على حد قوله بدنية تتعلق بالصوم والصلاة والحج... ومالية مثل الزكاة والخمس والانفاق في البر، والثالثة فكرية شرطها طهارة الروح ووسيلتها التفكّر باعتباره أسمى أنواع العبادات كما تشير إليها الأحاديث. ثم إن مجموع هذه الأصناف من العبادة التي تعمل على تطهير النفس من أوساخ المادة تبقى في نظر المؤلف في حاجة ماسة إلى الرافعة الأساسية التي بها تكتمل وتنضج نضوجاً تاماً ألا وهي الولاية التي يتميّز بها المعتقد الشيعي، فقاعدة الولاية المستندة إلى الإنسان الكامل كفيلة بالضرورة بتوسيع المنظور الإسلامي للعالم، وتفسح المجال لتفجير المواهب لدى كل إنسان لبلوغ أعلى المراتب في كماله الذاتي. ذلك أن طريق العبودية لا يُذلّل للإنسان "إلاّ من خلال الرعاية المعنوية والولاية الحقة للإنسان الكامل الذي هو وليّ اللَّه وحجّته ... (لأنه) لم يُنادَ بشيء مثلما نُودي بالولاية". بهذه الضمانة الولائية ينسد باب الإحباط في العبادة وينفتح باب التوحيد الحقيقي بمراتبه الأربعة في الذات والصفات والأفعال والعبادة، يفصّلها المؤلف ويشرح معانيها ليستنتج في نهاية التحليل أنها مانعة بالالتزام من الوقوع في الشرك الذي ابتليت به المذاهب المنحرفة.
* التوحيد في العبادة
قطب الرحى في المراتب التوحيدية السابقة يدور حول المرتبة الرابعة وهي التوحيد في العبادة وهي عبارة أخرى عن التوحيد العملي الذي يمثل الكينونة والصيرورة والحركة لبلوغ الكمال. فإذا كانت المراتب الثلاث الأولى تمثل التوحيد النظري ومهمتها العلم بوحدانية اللَّه، فإن التوحيد العملي توجه نحو معبود واحد، وسير وسلوك لا نهائي إليه. إلى هنا يكون غرض المؤلف من الموضوع قد اكتملت أبعاده إلا أن الكتاب ينفتح على باب غير معلن وهو بمثابة عناوين توضيحية لبعض الاشكالات التي يمكن أن تطرح حول التصور الإسلامي الخاص بالعبادة، حيث يحاول المؤلف أن يُصحّح بعض المفاهيم الخاصة بها كالزهد والعرفان والتوبة مستشهداً في ذلك بسيرة أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وأثرها عليهم. ويستنتج المؤلف أن كل هذه الانحرافات والمحن والجهل في العبادة منشأها عدم الاعتدال في العبادة والتدبر في النهج الصحيح الذي رسمه وطبّقه الأئمة عليهم السلام في حياتهم حيث حذّروا أتباعهم من محاذير الافراط والتفريط، هكذا كانت سيماء العابدين في الحقيقة، رهباناً بالليل فرساناً بالنهار، نجدهم في المحاريب كما نجدهم بين الناس وفي كلتا الحالتين لا تنقطع عنهم صفة العبادة وروحها.
بهذا التصور تختتم مسألة العبادة ضمن سلسلة مواضيع غنية بالمعاني يتمم بعضها بعضاً وتدعو القارئ إلى التوسّع في مضامينها واستلهام أسرارها، ومراجعة ما كان يتصوره عن معنى العبادة مراجعة نقدية.