نسرين إدريس
بطاقة الهوية
الاسم: أحمد إبراهيم فضل اللَّه
اسم الأم: مريم حسن سبيتي
محل وتاريخ الولادة: عيناثا 20-9-1972
الوضع العائلي: متأهل وله ابنة
رقم السجل: 40
مكان وتاريخ الاستشهاد: حداثا 27-7-1999
إنه "السيّد جعفر" النسر الذي لم يملّ التحليق فوق قمم جبال الجنوب ليقطف نصراً من هنا ووسام عزٍّ من هناك، وكيف له أن يغادر هضاباً ودساكر كانت تغفو بين مقلتيه مطمئنة، كان يحمل حفنةً من ترابها أمانة في عنقه، ليؤديها مبللة بدماء العز بين يدي صاحب الزمان عجل الله فرجه.
إنه هو ذاك الفتى العاملي الذي يجري بشرايينه الدّم الحسيني، غذّى عقله بتعاليم جده سماحة السيد محمد السيد فضل اللَّه في مدرسته المؤلفة من غرفةٍ اشتقها من منزله ذي الغرفتين! ففي ذلك المنزل الفقير الغني بتقوى اللَّه والإيمان العميق، وبين جدران تحوي ترانيم القرآن الكريم صبح مساء؛ ولد الشهيد أحمد وتربى في كنف عائلته المحبة داخل بيتٍ من بيوتات عيناثا، وكان ذا سحرٍ خاص يسلبُ لبّ كل من رآه، بلفتاته الهادئة، ونظراته العميقة وذكائه الوقّاد كل ذلك جعله يتربع على عرش قلوب الجميع... كان لأحمد الفتى أحلام كبيرة لا تعدُّ وانتظر الغد، فرأى تلاشي أحلامه مع دخول الدبابات الإسرائيلية لقريته الآمنة... ربما لم يستطع أحمد حينها أن يحرك ساكناً، غير أنه حفظ بداخله كل ما يمكن أن ينمّي بذرة الكراهية ضد اليهود، احتفظ به ليمزق جيشهم، خصوصاً بعد أن بدأت المقاومة الإسلامية بالثورة، وبث الرعب في نفوس الجيش الإسرائيلي وعملائه...
وبدأ تضييق الخناق على جميع الشباب المخيرين بين الاعتقال والانخراط في الخدمة الإجبارية لجيش العملاء أو الخروج من بيوتهم والتوجه نحو بيروت، وقد آثر الأغلب منهم الخيار الثالث فكانوا ينتقلون تحت جنح الظلام وبسرية تامة نحو العاصمة.. بعد مغادرة أخيه الكبير توجهت أنظار العملاء إلى أحمد الذي، وبعد أن أنهى المرحلة المتوسطة، أجبروه ورفاقه على المشاركة في حراسة حدود القرية خوفاً من عمليات المقاومة الإسلامية، وكانوا يعطونهم سلاحاً فيه طلقةً واحدة فقط للإنذار، ومقابل ذلك عمد أحمد ورفاقه إلى إحياء دور المسجد الذي حوله في النهار لمدرسة تبث الوعي بين الناس، فكانوا يحيون عاشوراء بشكل مفجع يثير الرعب في نفوس المحتلين، ولم يرق ذلك بالطبع للعملاء الذين هيأوا العدة لاعتقال أحمد، غير أن والدته علمت بالأمر، فسارعت بإرساله إلى بيروت حيث انتظره أخوه بفارغ الصبر...
من منطقة الجناح انطلق أحمد في حياته الجديدة وانتسب إلى المهنية لمتابعة دراسته الأكاديمية، إلا أن نشوب الحرب الأهلية حالت بينه وبين تحقيق حلم جديد، ولكنه لم يقف مكتوف الأيدي بل اختار أن يكمل المسيرة التي بدأها مع جده في القرية، وهي تحصيل العلوم القرآنية، فانتسب إلى الحوزة العلمية، في مقابل التحاقه بالعديد من الدورات العسكرية والثقافية محققاً بذلك الأمنية الوحيدة التي لن يستطيع أحد سلبها منه طالما أن اللَّه وفقه إليها وهي الانتساب للمقاومة الإسلامية...
عُرف السيد أحمد بالشجاعة والإقدام والمبادرة، وقد اختزل كل حياته بالعمل العسكري، بعد أن قرر التفرغ الكامل في صفوف المجاهدين، وسعى جاهداً إلى تطوير مهاراته، غير آبهٍ بتعبٍ أو إرهاق... وكان يتحين الفرص أثناء مشاركاته في عمليات الرصد والاستطلاع ليُعرّج إلى قريته، فيشم منها عبق الذكريات الجميلة، وليقطع لها وعداً بالعودة الأكيدة المظفرة. أولى تخطيطاته العسكرية كانت عملية شيحين التي سقط فيها تسعة قتلى إسرائيليين، وقد صرّح رئيس الوزراء آنذاك المقبور إسحاق رابين بالجملة المشهورة: "لقد هزمَنا حزب اللَّه"...
وتتالت المشاركات إلى جانب قيامه بتدريب الأخوة في المقاومة لصقل مهاراتهم، وقد بدأ رفاقه يغادرونه واحداً تلو الآخر إلى جنان اللَّه، ما ترك في نفسه جرحاً لعدم فوزه بالشهادة التي تمناها في كل لحظة... وقد منّ اللَّه عليه بوسام العز في إحدى العمليات حيث أصيب وأخ آخر بعد استشهاد باقي المجموعة، وكان الجريح فيه رمق من الحياة وطلب إلى السيد تركه في أرض المعركة والنجاة بحياته، غير أن السيد أحمد رفض ذلك وحمله على ظهره رغم إصابته العميقة وسار به حتى فقد وعيه، ولم يستيقظ إلا في المستشفى حيث أبلغوه باستشهاد رفيقه!
بعد هذه الحادثة بفترة قصيرة شنت القوات الإسرائيلية حرب عناقيد الغضب، فما كان منه إلا أن ترك فراشه ليلتحق بمركز عمله بوضعه الصحي الصعب، فاستنكر الأخوة عليه ذلك وأجبروه على الرجوع رغماً عنه إلى المنزل، وبعد تماثله للشفاء، سارع للعودة إلى عمله ورفض عرض الأخوة في قيادة المقاومة بتكليفه فقط بمهمة التدريب مصراً على المشاركة في العمليات الجهادية، وقد أصيب مرة أخرى بعد اشتباك مجموعة من المقاومين مع دورية إسرائيلية، فانتظر حتى يشفى ليعود الأسد إلى عرينه، وكان دائماً يردد أن شهادته ستكون في منطقة بنت جبيل حيث استشهد أغلب رفاقه، لذا كان يعشق الخدمة في ذلك المحور لشعوره الدفين أن حلمه سيتحقق بين تلك الربوع... تزوج الشهيد أحمد في نفس الوقت الذي كان يعد العدة فيها للشهادة، وقد قال قُبيل انطلاقه في العملية الأخيرة "إن ولاية أهل البيت عليهم السلام لا تتحقق إلا بالذوبان في حبهم، أمّا الشهادة في سبيل اللَّه لا ينالها إلا ذو حظ عظيم"...
ودَّع السيد أحمد أهله والرفاق، وزوجته وجنينها، وانطلق بعزمٍ حسيني إلى الأرض التي احتضنت أشرف أجسادٍ لأرواح باعت نفسها لبارئها، ولا ريب أن تكون خاتمة السيد أحمد في محور بنت جبيل حيث تمنى بل حيث أحسّ، فالخُلَّصُ من الناس يقودهم يقينهم إلى الحقيقة الواضحة، فكان يوم السابع من تموز 1999 هو اليوم الذي عرجت فيه روح أحمد إلى بارئها أثناء قيامه بفتح طريقٍ للمجاهدين لتنفيذ إحدى العمليات العسكرية... غادر النسرُ قمم الجبال، ليسكن في جناتٍ تجري من تحتها الأنهار أعدها اللَّه للذين تاجروا معه تجارة لن تبور، فكانت الشهادة حُلية عمرهم الممهور بالرصاص والدماء...
* من وصية السيد جعفر:
"الشهادة ولادة جديدة ويا ليتني أمتلك أرواحاً عديدة لأفتدي بها من أجل الإسلام، لا تغمضوا عيني بعد استشهادي ليفهم الذين ران على قلوبهم إني سلكت هذا الطريق عن وعي وبصيرة وضعوا يدي خارجاً ليرى عبيد الدنيا إني لم آخذ شيئاً معي واحكموا قبضة يدي ليعلم الكافرون أن جسدي الهامد لن يدع لهم بال وأن عبواتي ستظل تدوي ويسمع صوتها طوال الزمن ولن يقر لهم قرار أو يهدأ لهم بال وستظل تمزق الأجساد ويدوي صوتها في الآفاق".