إعداد: نسرين إدريس
الرامي الماهر وقانصُ الميركافا: الشهيد المجاهد غسان علي غانم (غريب نور الله)
بطاقة الهوية
الاسم: غسان علي غانم
اسم الأم: صبحية غانم
محل وتاريخ الولادة:
عيناتا 9 / 2 / 1976
الوضع العائلي:
عازب
رقم السجل: 62
مكان وتاريخ الاستشهاد: بئر كلاب - الريحان 7 / 11 / 1997
كانت رائحة البارود تنشرُ موتها فوق الجنوب عندما أخذته
أمه بين ذراعيها وخبأته في حضنها خوفاً عليه من الحياة.. وكيف لا تخشى عليه وهي رأت
الموت يتربصُ بوليدها منذ اليوم الأول، فالصهاينة ما فتئوا ينكلون بأهل القرى،
والحرب الأهلية مدّت بخنجرها السام لتقطع وريد السلم.. وغسان الذي لم تختزن رئتاه
الصغيرتان باستنشاق ما يكفيه للعيش من هواء عيناتا سرعان ما حمله والده مع العائلة
ونزحوا إلى القرى المتاخمة لشاطىء البحر بعيداً عن الخوف المتربص بالناس..
ولا غرو أن يشعر غسان ذلك الطفل الصغير بمرارة البعد عن قريته، خصوصاً بعد سفر
والده إلى الخليج ليؤمن قوت اليوم لعياله بعد أن شدّ الفقرُ زناره على خاصرة لبنان
بين النيران المشتعلة على أطرافه، إلا أنه و بعد سنتين سرعان ما عادت العائلة للسكن
في عيناتا التي احتضنت شوارعها وحقولها وأحياؤها مراحل عمر غسان وهو يطوي عاماً بعد
آخر، تلمحه وهو جالس بين العجزة ليستمع إلى حكاياهم الجميلة الممزوجة بنفحاتٍ
خيالية رقيقة تبقى في مخيلته الصغيرة حتى يخلد إلى النوم..
صحيح أنه كان ولدًا
مدّللاً وشقياً، ويقضي أوقاته بين الدرس وملعب كرة القدم والحقول الجنوبية السارحة
وهو يحمل بندقية الصيد يبحثُ عن طريدة، لكنه سرعان ما وعى مسؤوليته في الحياة وتصدى
لقساوتها بشجاعةٍ وحزم، فبالرغم من محاولة والده بتأمين تعليم له في أفضل المدارس
لما برز فيه من فطنة وذكاء، إلا أن التعب الذي استوطن بين كفيه، دفع ولده لترك
الدراسة بعد الثالث متوسط ليبدأ بعملٍ يمنحه فرصة مساعدة والده الذي أرهقته الغربة
وهده بُعد أبنائه من الشريط المحتل هرباً من العدو الصهيوني.
وإن كانت عيناتا هي
الحلم الذي يعيش فيه غسان، فإن الكابوس الذي هجم عليه ذات ليلة جعله يحزم حقائبه
على عجل ليغادر حضن والدته وأمن والده وزوايا بيته، وذلك بعد أن تناهى إلى سمعه نية
مسؤول القرية في ميلشيا لحد بالحاقه في التجنيد الإجباري، فأسر لوالدته بما يخفيه
فقامت بدورها بالادعاء أن ولدها مريض ويحتاج للمعالجة في بيروت، وفي صباح اليوم
التالي كانت تقفُ وابنها الذي لم يتجاوز خمسة عشر عامًا ونيفاً على المعبر الفاصل
بين المناطق المحررة والمحتلة لتعبر معه إلى حيث يمكنه أن يختار الحياة التي يريد،
لم تخشَ أن تسرقه المدينة وتغره الدنيا، لأنها كانت تعرفُ حق المعرفة أن الطينة
الطيبة التي ربته عليها والايمان الفطري الصادق، وقراره اللجوء إلى الغربة عن
العالم الذي عاش فيه ليتفلت من الخدمة في جيش العدو ما هو إلا قرار ينم عن وعيٍّ
وإدراكٍ كبيرين.
تنقّل غسان بين منزل اخوته في صور وكفر ملكي والضاحية الجنوبية، وعمل في أكثر من
مهنة، وقد تعرف خلال إقامته في بلدة كفر ملكي على بعض الاخوة المجاهدين، فطلب إلى
رابط القرية أن يُدرج اسمه في دورة عسكرية لتكون تلك الدورة هي فاتحة عهد الجهاد
بالنسبة إليه، فبدأ يرابط على محاور الإقليم وقد عرف بشجاعته واندفاعه، واشتهر
بدقةٍ غريبة في إصابة الأهداف ما جعل مسؤوليه يختارونه للمشاركة في دورة صواريخ
موجهة، ليعود منها إلى كل المحاور رامياً ماهراً يقنُص دبابات الميركافا التي كان
يتباهى بها العدو الصهيوني بسهولة، ويشارك في أصعب العمليات العسكرية وأخطرها.. صار
عالم المقاومة هو المكان الذي ينتمي إليه غسان، يجلس بين إخوته المجاهدين يمازحهم،
ويخفف من همومهم ويعاملهم باحترام ملفت.. كان شاباً مؤمناً، تقياً ورعاً، شجاعاً لا
يخاف في الله لومة لائم، سعى بكل صدقٍ وإخلاص لنيل الشهادة، وكان يقضي معظم أوقاته
في جبانة بلدة دير قانون النهر يحاكي الشهداء الذين استراحوا تحت ترابها، وقد أوصى
رفاقه أن يُدفن وديعة: تحت شجرة في جبانة دير قانون النهر حتى تتحرر عيناتا وينقل
إلى القرية التي لم تغادر مخيلته أبداً.. كلما انطلق للمشاركة في عملية ودع اخوته
ورفاقه، لكن في المرة الأخيرة التي توجه فيها للمشاركة في نصب كمين لبديل بئر كلاب
الريحان، اتصل بالجميع وطلب إليهم أن يسامحوه، وأن يدعوا له ليوفقه الله بالعمل
الذي سيقدم عليه، وأيضاً طلب من الأخوة في قيادة المقاومة ألا ينعوه باسمه
الحقيقي إذا استشهد خوفاً على أهله القاطنين في عيناتا، وأن يطلبوا إليهم الخروج من
المناطق المحتلة هرباً من انتقام العدو الصهيوني وميليشياتهم..
لاحت له الشهادة ورآها نصب عينيه، عز عليه الرحيل لأنه كان يعشق قتل اليهود، لكن
الشوق مزق أوداج الانتظار، وشقت سفينته غمار الفلك لتصل إلى حيث الرفاق قد سبقوه..
وأبى غسان أن يغمض جفنيه قبل أن يذيق الصهاينة طعم الموت الأحمر، فبعد تنفيذ المهمة
بنجاح، وأثناء انسحاب المجموعة قام الطيران الحربي الإسرائيلي بالتحليق على علو
منخفض وبدأ يمشط طريق الانسحاب، فسقط صاروخ بالقرب من المجموعة أدت إلى استشهاد
غسان والشهيد نبيل اخضر.. دفن الشهيد غسان تحت الشجرة التي طالما أنس تحتها بمحاكاة
الشهداء، وارتاحت غربته بعد أن تحررت قريته، ليحمل جثمانه إليها، وليعبر من جديد
على تلك الطريق الواسعة دون حواجز إلى قريته عيناتا..
من وصيته :
إخواني المجاهدين في سبيل الله اعلموا أن الدنيا جيفة وطلابها كلاب عليكم أن
تستغلوها بالعمل الصالح لكسب رضوان الله تعالى واعلموا أن انتصاركم يكمن في طاعتكم
للتكليف الشرعي الذي هو قلب الإسلام النابض واستمرار درب الأنبياء. إن الطريق الذي
اخترتموه صعب وشاق وطويل، حافظوا على النهج واصبروا ولا تنسوا دماء الشهداء واحملوا
القرآن بيد والسلاح بالأخرى. أمي الحنونة: كم وددت رؤياك قبل صعود روحي إلى السماء
لكن اشتياقي للإمام الحسين عليه السلام كان أكبر، فأرجو منك المعذرة ولا تحزني علي
ولا تدمع عيناك بل ترحمي علي واطلب منك المسامحة.. إخوتي الأعزاء: أوصيكم بطريق
المقاومة الإسلامية لأنه السبيل الوحيد للفوز في هذه الدنيا وأطيعوا الله حقا.